قد يكون الحشد التاريخي الذي ينوي حزب المؤتمر الشعبي العام في اليمن تنظيمه، في 24 من أغسطس/ آب الجاري، بمناسبة مرور 35 عاما على تأسيسه، بداية فك براغي آخر تحالف أقامه علي عبدالله صالح، خلال أربعة عقود له في رئاسة البلاد، و35 عاما في رئاسة هذا الحزب الذي مثل إطارا لإقامة تحالفاتٍ كثيرة اشتهر صالح بمهارته في تركيبها وتفكيكها، وجديدها تحالفه الراهن مع جماعة أنصار الله (الحوثيين).
قد يكون الحشد التاريخي الذي ينوي حزب المؤتمر الشعبي العام في اليمن تنظيمه، في 24 من أغسطس/ آب الجاري، بمناسبة مرور 35 عاما على تأسيسه، بداية فك براغي آخر تحالف أقامه علي عبدالله صالح، خلال أربعة عقود له في رئاسة البلاد، و35 عاما في رئاسة هذا الحزب الذي مثل إطارا لإقامة تحالفاتٍ كثيرة اشتهر صالح بمهارته في تركيبها وتفكيكها، وجديدها تحالفه الراهن مع جماعة أنصار الله (الحوثيين).
يبدو من التذمر الذي يبديه الحوثيون، في أثناء مرحلة الإعداد لمؤتمر الحزب، أن الحشد المنتظر سيكون رسالة من علي عبدالله صالح، عبر حزبه، إلى حلفائه في الداخل من جماعة الحوثيين، أكثر من كونه رسالة إلى خصومه في الداخل أو الخارج، بعد أن شهد تحالفه معهم، باعتبارهما ثنائي سلطة أمر واقع في صنعاء، فتورا واضحا وتبادل رسائل، أقل وصف لها أنها مؤشرات عدم الرضا من الطرفين عن طبيعة تحالفهما المعلن منذ 2015، وإن كان قد بدأ تنسيقا خجولا إثر انشقاق الجنرال علي محسن الأحمر عن صالح، وانضمامه إلى الساحات الشبابية إبان الثورة اليمنية، في 21 مارس/ آذار 2011، باعتباره خصما للطرفين، بعد ثلاثة عقود من التحالف الوثيق بين محسن وصالح، والذي بلغ مستوى الشراكة.
يبدأ صالح تحالفاته بالتماهي مع أي طرف آخر، يؤمن بوجود مصلحةٍ مشتركة معه، إلى درجةٍ يصعب التمييز فيها بينهما، ثم يكوّن مساراتٍ خاصة للتمايز التدريجي مع حليفه، حتى يتحول خصما واضحا في نهاية المطاف. ويحرص صالح على أن يكون مصدرا للفعل، والطرف الأقوى في أي تحالف داخلي، باعتباره صاحب السلطة الأعلى. ولا يحرص، في المقابل، على إظهار هذه الميزة أمام الآخر، كما ظهر ذلك جليا في جميع تحالفاته تقريبا منذ بداية حكمه شمال اليمن في 17 يوليو/ تموز 1978.
باستثناء دائرته المقرّبة التي تشكل قاعدة حكمه الصلبة، لم يعرف علي عبدالله صالح التحالفات الاستراتيجية، بقدر ما خاض غمار تحالفات تكتيكية متوالية، يخرج منها بمرونة، كما حدث بينه وبين التجمع اليمني للإصلاح (تحالف مركّب من قيادات قبلية ودينية ورجال أعمال) ابتداء من 1997، أو بعنف ودماء كما حدث بينه وبين الحزب الاشتراكي اليمني في حرب صيف
“يحرص صالح على أن يكون مصدرا للفعل، والطرف الأقوى في أي تحالف داخلي، باعتباره صاحب السلطة الأعلى” 1994. وغالبا ما يكون هناك إطار رسمي لتحالفاته المعلنة، وهو المؤتمر الشعبي العام، لكن الأمين العام المساعد للمؤتمر، ياسر العواضي، أكد قبل سنوات أن صالح لم يحكم بحزبه، وإنما بتحالفٍ غير رسمي مكون من ثلاثة أشخاص، صالح ومحسن وشيخ قبيلة حاشد الراحل عبدالله الأحمر الذي توفي في عام 2007 (بعد أشهر من حديث العواضي)، وتحول أبناؤه إلى خصوم أقوياء لصالح، استمدوا قوتهم في مناهضته من القبيلة والمال والامتيازات الكبيرة التي منحها صالح لهم ولوالدهم خلال ثلاثة عقود من التحالف بين “الرئيس والشيخ”، حولتهم إلى إمبراطوريات مال ونفوذ غير مسبوقة في اليمن.
أما الجنرال علي محسن الأحمر فقد تأخر حتى مارس/ آذار 2011، ليتحول إلى خصم معلن لصالح، بعد سنوات من النزاع الكامن الذي سعى فيه إلى الحفاظ على قوته وحضوره ذراعا يمنيا لصالح طوال فترة حكمه، وكان تصعيد صالح نجله أحمد قائدا للحرس الجمهوري (أكبر تشكيلات الجيش اليمني)، وإعداده ليصبح الرجل الأول في اليمن بعده قد أوصل عدة رسائل سلبية إلى محسن، فصعود أحمد كان خصما مباشرا من رصيده من القوة والنفوذ. ويرى الجنرال محسن نفسه أحد الأيادي التي أوصلت علي عبدالله صالح إلى السلطة، حيث جرى اختياره مرشحا لرجال الجيش، قبل أن ينتخبه مجلس الشعب التأسيسي في 17 يوليو/ تموز 1978، كما ذكر محسن، وهو أيضا الرجل الذي قمع أول انقلاب ضد صالح، قاده الناصريون بعد ثلاثة أشهر من توليه الحكم، وأصبح يمارس صلاحياتٍ موازية لصلاحيات الرئيس، نتيجة توليه، إلى جانب نخبة من العسكريين المنحدرين من أسرة ومنطقة صالح، شكلوا قاعدة حكمه الصلبة (علي محسن، محمد إسماعيل، صالح الضنين، عبدالله القاضي، أحمد فرج، وشقيقه الأكبر محمد عبدالله صالح، وأخواه غير الشقيقين علي صالح قائد الحرس الجمهوري قبل أحمد علي، ومحمد صالح قائد الدفاع الجوي حتى 2012)، وذلك بقيادة أبرز وحدات الجيش ورسم السياسات العامة للدولة من خارج مؤسساتها، وكان ذلك أول وأطول تحالف غير معلن لصالح في فترة حكمه، ولم يرغب أن يظل قيدا على ممارساته السلطوية، بعد وصول أبنائه وأبناء عمومتهم إلى مراكز تسمح لهم بإدارة اللعبة منفردين.
لم يبق من التحالف الأول لصالح حاليا غير إخوته غير الأشقاء وأبناء شقيقه الأكبر محمد عبدالله صالح، وكان الانشقاق الأكبر الذي هز سلطته في 2011 تفكك هذا التحالف المسكوت عنه باعتباره قاعدة صلبة لحكمه أكثر ربما من خروج الشباب وأحزاب المعارضة إلى الساحات، وكان الشاعر اليمني الأشهر عبدالله البردوني قد توقع أن ينهار تحالف سنحان محدثا كارثة على الشعب:
أخشى على الشعب منهم إذ أخاف على/ سنحان من نفسه من بعض سنحانا
ذلك التحالف هو حقل الألغام الذي لم يستطع علي عبدالله صالح تجاوزه بسلام، لأنه نشأ في أضعف حالاته (صالح) رئيسا في بدايات حكمه، فنفوذ (وتأثير) أي من القيادات العسكرية أعلاه أو الشيخ الأحمر، كان يفوق نفوذ أحزاب مجتمعة وتأثيرها، أو نفوذ أي حكومة في عهده. وعندما بدأ صالح يشق الطريق لنجله إلى السلطة كان هؤلاء يرون ذلك تجاوزا منه لمبدأ الشراكة والحكم الجماعي بينهم. حاول صالح توريط محسن، وهو الأقوى بين تشكيلة رجال سنحان حول صالح، في ست حروب مع حركة الحوثيين في صعدة (2004 – 2010)، لأنه القائد العسكري للمنطقة التي تتبعها صعدة، لكن محسن نفذ بجلده منها بصعوبة، وكانت آخر حربٍ يخوضها تحت مظلة صالح.
“حافظ صالح على تحالفاته بالقدر الذي يخدم أهدافه، وفي الوقت نفسه، كان يربي القوة التي يمكنها أن تقف ضد حلفائه عند افتراق مصالحهم”
لم يكن هذا التحالف غير المعلن يسمح للتحالفات المعلنة بين صالح وحزبه (المؤتمر الشعبي العام) مع أحزاب وقوى أخرى أن تتجاوز نفوذه، وكان يعبر عن مواقفه عبر كيانات حزبية، أو في اللقاءات المغلقة. وحين تحالف صالح مع الحزب الاشتراكي اليمني، وأعلنا إعادة توحيد الشطرين اليمنيين (الشمال والجنوب) في مايو/ أيار 1990، أوعز صالح إلى الشيخ عبدالله الأحمر تشكيل حزب سياسي، يناهض حليفه (الاشتراكي) عندما يجد صالح صعوبةً في الاعتراض عليه، باعتباره شريكا في السلطة والوحدة. ولم يجد الشيخ الأحمر حرجا من نشر هذا الاتفاق الذي تمت، بموجبه، ولادة ثاني أكبر حزب في اليمن (التجمع اليمني للإصلاح)، فكان هذا الحزب، إلى جانب رجال سنحان النافذين وقيادات مؤتمرية محدودة للغاية، هم من يوجهون إيقاع علاقة المؤتمر الشعبي العام بالحزب الاشتراكي، ويضبطونها، بالطريقة التي أدت إلى حرب صيف 1994، لتفكك عُرى التحالف بين “المؤتمر” و”الاشتراكي” الذي صنع الوحدة، بل وعُرى الوحدة ذاتها.
بعد تفكيك تحالفه مع الحزب الاشتراكي بتلك الطريقة، استأنف علي عبدالله صالح تحالفه الذي لم ينقطع، بل تراجع ظاهريا إلى الدرجة الثانية في الفترة الانتقالية (تحالف المؤتمر والاشتراكي)، وهو تحالفه مع القوى الإسلامية والقبلية التي شكلت حزب الإصلاح (1990). وإذا كان “المؤتمر”/ صالح تحالف مع “الاشتراكي”/ علي سالم البيض باعتبارهما شركاء إعلان الوحدة، فإن صالح تحالف مع الشيخ عبدالله الأحمر، تحت مظلة حزبي المؤتمر والإصلاح، شريكي حربٍ أدت إلى إقصاء شريك الوحدة، وثالث أكبر قوة حزبية في البلد (الحزب الاشتراكي). واستمر التحالف باستحقاقاته ومكاسبه بشروط “المؤتمر”، وكان التحالف بين صالح والأحمر أقوى وأقدم من تحالف حزبيهما (المؤتمر والإصلاح)، لكن أهمية الأحمر تراجعت، بعد توقيع اتفاقية الحدود مع السعودية، باعتبار الشيخ الأحمر أبرز حلفائها في اليمن وأحد مهندسي الاتفاقية (1995-2000). وبإلغاء صالح نظام التعليم الموازي للتعليم النظامي (المعاهد الدينية/ العلمية) كسر العصا بينه وبين الأحمر وحزب الإصلاح الذي كانت تلك المعاهد أبرز موارده البشرية من الشباب العقائدي.
تفرّد صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام بالسلطة كليا منذ 1997، باستثناء رئاسة البرلمان فقد منحها صالح بالتزكية للشيخ الأحمر حتى وفاته، على الرغم من أنها من نصيب المؤتمر باعتباره حزب الأغلبية، لكن المعارضة تعلمت صناعة التحالفات، وأصبحت أحزاب اللقاء المشترك منذ العام 2003 أكبر معارضة حزبية عرفها اليمن، وقابلها صالح وجها لوجه في انتخابات الرئاسة في العام 2006، ليعجز لأول مرة منذ توليه السلطة عن بناء تحالف سياسي، أو قبلي، يضمن له استمرار احتكار السلطة من دون مخاطر، خصوصا وأنه فشل في معالجة الأزمات المركبة على صعيد الاقتصاد، وفي إنهاء مشكلة صعدة مع الحوثيين، أو إيجاد حلّ مرضٍ للقضية الجنوبية التي تصاعدت بقوة.
بهذا الثقل، قابل علي عبدالله صالح الربيع اليمني في عام 2011 الذي انطلق بعد عام على إيقاف آخر حرب له مع الحوثيين (الجولة السادسة)، وخسر فيها جزءا كبيرا من علاقته بالسعودية، لشكّها في دعمه الحوثيين ضدها بالسلاح، حين شاركته في الحرب السادسة ضدهم. ولأن صالح أيضا عزّز علاقته بقطر، فقد زار أمير قطر (السابق) الشيخ حمد بن خليفة صنعاء، وأعاد الحياة إلى اتفاقية الدوحة بين صالح والحوثيين، والتي تمت بوساطة قطرية، بالتزامن مع أعقد أزمة بينه وبين أحزاب اللقاء المشترك، وبعضهم من حلفاء صالح السابقين،
“تحالف صالح مع الحوثيين بشكل صامت، من دون أن يتوقع أحد قيام تحالفٍ بينهما، وهما الخصمان اللذان خاضا ست حروب ضد بعضهما” فقرر أن يمارس السياسة بالقفز إلى المربع الذي لا يتوقعه أحد.
تحالف صالح مع الحوثيين بشكل صامت، من دون أن يتوقع أحد قيام تحالفٍ بينهما، وهما الخصمان اللذان خاضا ست حروب ضد بعضهما، لكن الخصم المشترك بينهما، أي الجنرال علي محسن، الخصم العسكري للحوثيين وصالح، والخصم الأيديولوجي للحوثيين، كان القوة التي اتهمها صالح بالوقوف وراء الربيع اليمني، بالتحالف مع قطر (حزب الإصلاح)، ما جعل تحالفهم الذي تم إعلانه على الأرض في معارك التوسع الحوثي من حاشد حتى صنعاء فتعز وعدن (2014- 2015) ممكنا، ثم جاء تدخل التحالف العربي العسكري، بقيادة السعودية، في اليمن، ليمنح تحالفهما صيغةً مختلفة، وأكثر قبولا شعبيا بحكم طبيعة العلاقة بين اليمن والسعودية.
تدرّج صالح في إعلان تحالفه مع الحوثيين، بعد تدخل التحالف، في لقاءين تلفزيونيين، قال في أحدهما إنه يشارك الحوثيين فقط الحرب ضد الانفصال (بعد فرار الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن). وفي الآخر، إنه يشاركهم فقط الحرب في الحدود مع السعودية، وليس شريكا في حروب الداخل. وكما تدرج في إعلان التحالف معهم، ربما يتدرج في فكفكته حاليا، خصوصا وقد تبادل الطرفان هجماتٍ إعلامية محدودة، وهدّد صالح لأول مرة بالانسحاب من الحكومة المشتركة بينهما، إن استمروا في تعديل المناهج التعليمية، ليأتي حشد السبعين المرتقب إعادة اعتبار واستقلالية لحزب المؤتمر الشعبي العام، بعد أن تماهى مع الحوثيين، ودفعهم إلى الواجهة منذ 2014.
حافظ صالح على تحالفاته بالقدر الذي يخدم أهدافه، وفي الوقت نفسه، كان يربي القوة التي يمكنها أن تقف ضد حلفائه عند افتراق مصالحهم، فقد تحالف مع الحزب الاشتراكي، ودعم حزب التجمع اليمني للإصلاح ضده، ثم تحالف مع الأخير ودعم الحوثيين ضده، ولم تتضح بعد القوة التي يراهن عليها لتقف ضد الحوثيين، وقد تكون حزبه (المؤتمر الشعبي العام) الذي يحضر لحشده المقبل بشكل غير مسبوق.
نقلا عن العربي الجديد