كتابات خاصة

حكاية قريتي تحت عش النسر

معاذ المقطري

الهويشة هي الهوية الإسمية التي تحملها قريتي الواقعة على سلسلة جبال المقاطرة المطلة على لحج من جهة الشمال الغربي، وبالنسبة لليمن فيمكن وصفها بالقرية التي نحت أهلها قصة عبورهم المذهلة على جبل شاهق اسمه العتد الهويشة هي الهوية الإسمية التي تحملها قريتي الواقعة على سلسلة جبال المقاطرة المطلة على لحج من جهة الشمال الغربي، وبالنسبة لليمن فيمكن وصفها بالقرية التي نحت أهلها قصة عبورهم المذهلة على جبل شاهق اسمه العتد.. القصة التي يمكن تتبعها على الموقع الرسمي لمنظمة “كير” الدولية كما على “يوتيوب”و شبكات التواصل الإجتماعي ومحركات البحث على”جوجل”.. إنها قرية سياحية بإمتياز .. فالجبال التي شيد الناس عليها ديارهم من أجل عيش كريم، هي ذاتها الجبال التي تمدهم بماء عذب ينبع منها بلا توقف..أما ديارها فتبدو عالية على نحو مقصود وملفت.. ذلك أن تضاريسها الوعرة لم تتح مساحات كافية للبناء الأفقي فكان على الناس أن ينهضوا بديارهم إعتمادا على البناء الرأسي لها، الشيء الذي جعل منها ديار شامخة.. فيما شكلت الحيود والثغور الأكثر إتساعا وعمقا مساكن ملائمة لأولئك الذين  يتحاشون تساقط الأحجار والصخور الضخمة على قرية تأوي الى أحضان الجبال.

وما أخشاه حقا هو أن تكون عائلات نسور “الجريفون” العملاقة قد غادرت قريتي البديعة هذه إلى غير رجعة!!
يشكل هذا النوع من النسور عنوانا لهويتنا المكانية، فبين سائر القرى الجبلية المجاورة ظلت الهويشة هي القرية التي يشار اليها بالقرية الواقعة تحت أوكار النسور.. وبالرغم من تزايد أعداد العائلات التي حافظت عليها سلالات القرد “الرباح”في تلك الجبال، كان على عائلة نسور الجريفون الجارحة والعملاقة أن تحافظ على هوية العنوان الجبلي الشاهق للهويشة، الشيء الذي أبقاها على تميز.
عادة ما تهاجر هذه النسور إلى مكة المكرمة مع كل موسم حج، ويعتقد الأهالي بأنها تلتحق بحجاج بيت الله الحرام لكي تتغذى على لحوم الأضاحي الوافرة هناك، ما يشير إلى شحة مصادر الصيد والغذاء بالنسبة للحياة البرية في شبه الجزيرة العربية.. على أن تاريخ هذه الجوارح العملاقة لم يسجل أي نوع من السلوك العدواني ضد عائلتي المنحدرة من سلالة البشر.
مع أن الطريق الذي يسلكه الأهالي ومنهم أطفال المدارس يمر على بعد أمتار قليلة من أوكارها الظاهرة على المنحدر الحاد لجبل العتد، وهو الجبل الذي نحت عليه الأهالي طريقهم العبقري المؤدي بهم الى المناطق الأكثر حضرية ضمن مديرية الشمايتين ومدينة التربة ذي التضاريس المنبسطة إنطلاقا من قرى شرجب.
خلافا لقرى المقاطرة والقرى اليمنية التي سلك أهلها طريق الهجرة النهائية بحثا عن شروط أفضل للعيش في المدن والمناطق الحضرية، أعاد أبناء الهويشة صياغة العنوان المكاني لقريتهم لتصبح هي القرية التي شقت طريق إنتقالها إلى الحياة الحضرية على  أوكار النسور.. ومن هنا جاءت بواعث خشيتي من أن لا تعود النسور الى أوكارها العتيقة في قريتنا بعد إنقضاء موسم الحج لهذا العام!! ذلك أن مسرح عبور الأهالي والزوار الواصلين إلى القرية والمغادرين لها أصبح كله مكشوفا أمام أعينها المسكونة بالذهول.. ذاته الذهول الذي ينتابني كلما صعدت أو نزلت على هذا السلم الجبلي المؤلف من 1000 درجة والذي يبدو كما لو أنه معلقا على أوكار جوارح تحاشا الأهالي شق طريقهم عليها عنوة.
 
والحقيقة أن الأهالي نحتوا سلمهم الجبلي البديع على بعد أقل من 20  مترا من تلك الأوكار العالية على جبل العتد المنحدر بشدة على الضاحية الغربية لمنطقة شرجب.. في مطلع العام الماضي 2016  كنت الليد الذي غادر قريته بحثا من مصدر كريم للعيش، وحين عدت اليها لقضاء إجازة عيد الفطر الفائت لم أكد أصدق ما رأيت!! كان آخر حديث تجاذبته مع أهالي القرية يدور حول صعوبة وصولهم إلى الإغاثة والمساعدات الإنسانة، في ظل حرب عصفت بالبلاد وأعادت الكثير منهم كنازحين إلى القرية.. وكانت مواد الإغاثة قد أخذت تتدفق إلى القرى المجاورة في مديرية الشمايتين، فيما عدد من المنظمات الإنسانية فتحت مكاتب لها في مدينة التربة حيث نفدت تدخلاتها في المناطق ذاتها، كما لو أنها تتحاشا كلفة الإستجابة للمناطق الأشد فقرا وعزلة ومنها قريتي الواقعة تحت عش النسر.. لم يتغير الوضع كثيرا بشأن الأولويات ونطاق الإستجابة بالنسبة لتلك المنظمات، على أن منظمة كير الدولية إمتلكت جسارة إقتحامها لقريتي ضمن سلسلة القرى الملاصقة لها وعبر برنامج تدخلها الغذائي “الغذاء مقابل العمل”.. لم تكن الدولة قد وصلت البتة الى قريتي المختبئة هناك، عدى في جمعها للإتاوات والزكوات عبر المرحوم شيخ القرية ، ولا زال عمو علي سيف الهويش يحتفظ بصورة تجمعه بعائلة القنصل الهولندي التي جاءت معه الى قريتنا قبل أكثر من 20  عاما، هذه العائلة الهولندية هي التي دعمت ومولت على حسابها الخاص مسيرة العمل الأولى لطريق القرية، ذالك الطريق الذي كان الأهالي يتسلقوه بواسطة الحبال قبل ذلك.. على الطريق الذي تم تحسينه نسبيا بدعم من العائلة الهولندية يومذاك، عبرت وأبناء جيلي في الهويشة الى المدارس والجامعات في الشمايتين وعموم البلاد.. فيما الدكتور عبد الهادي المقطري ومعه أبناء جيله السابق لنا كانوا قد سلكوا طريق مدارسهم عبر تسلقهم بواسطة الحبال في منطقة “الخرارة” على جبل العتد، وقد حملت الخرارة هذا الأسم لأن اجدادنا كانوا يخرون منها ثم يقوم الأهالي بجمع أشلائهم في أسفل الجبل.. كان على منظمة كير كذراع إنساني للشعب الأمريكي الصديق أن تمنح أهالي قريتي المعزولة هناك  قدر من الأمل والغوث الغذائي إلى جانب المواد الأساسية للعمل وكان على الأهالي إغتنام هذه الفرصة وعدم إضاعتها مهما كلف الأمر.. وهكذا قام أخواني وأهلي بربط أنفسهم  بواسطة الحبال التي تدلوا عليها لنحت سلمهم على العتد وخصوصا عند الخرارة وفوقها وتحتها.. فما من طريق سواه سيغادر بهم حالة العزلة، سواء كانت النسور قد غادرت هي الأخرى أم لم تغادر..لم أكن أتصور بأني سأصل إلى قريتي على متن ذلك السلم الحجري المؤلف من 1000 درجة حجرية نحتها الأهالي بإتقان وإبداع، وحيث كانت النسور قد نسجت أعشاشها العالية على مدى قرون.لا أدري كيف سيبدو الأمر بالنسبة للدكتور عبد الهادي الذي غادر قريتي الى الصين قبل عقدين من الزمن والتحق بأعمال التجارة عبر البحار؟يحن عبد الهادي كثيرا إلى قريته وأهله، ولذا كان عليه أن يشاطر منظمة كير دعمها وتمويلها لعملية شق طريق العتد.. الطريق الذي بدا على شكل سلم معلق في الهواء قبل أن يمول عبد الهادي عملية تحصينه بالسياج الحديدي ويستكمل دعمه لعملية الشق تحت الخرارة وصول إلى القرية.. وهذا ما تفعله كير:  تطلق برامج دعم التنمية في المناطق الأشد فقرا بعد أن تكون قد خططت لها ودعمت تنفيذها بقيادة المجتمع المحلي ذاته وعلى نحو قابل لحشد مساهمات أوسع للميسورين والشركاء الإنسانيبن، وبالنسبة لقريتي الفقيرة كان الدكتور عبد الهادي المقطري أبرز المساهمين مع كير ومع برنامج  “الغذاء والأمل.. مقابل العمل”.. الإنجاز الذي بفضله صارت قريتي صديقا للشعبين الأمريكي والصيني إلى جانب الشعب الهولندي قبل ذلك.. وأخيرا وصل الدركتل إلى مشارف قريتي عن طريق نفق الحرية الذي يربط المقاطرة الشرقية بالمقاطرة الغربية.. وهو الآن يشق طريقه إلى الهويشة بدعم من منظمة كير أيضا.. يواصل الدركتل تقدمه على مسار يؤدي الى أعماق  قريتي.. مسار شقته ذات الأيادي التي نحتت قصة الهويشة على جبل العتد.. ولئن كانت نسور “الجريفون” بمخالبها ومناقيرها الجارحة لم توقف مسيرة نقش أهالي الهويشة لقصتهم الفرعونية على الجبل، فلن تتوقف مسيرة شق الدركتل لطريق السيارات والمركبات إلى قريتنا حتى وإن كان شق هذا الطريق سيجبر عائلات القرد “الرباح”على مغادرة القرية إلى مناطق جبلية أبعد، ما لم يكن عليها أن تتكيف.. يبقى أمام أهلنا اليوم فرصة أخرى سانحة للإنتقال من الواقع الذي ظلوا يعيشوه آلاما وعزلة، إلى الواقع الذي ظلت الأجيال المتعاقبة تعيشه أحلاما مستحيلة.. وما أجمل أحلام طفولتنا إذ نراها تتحقق.. ولربما عادت النسور أيضا.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى