تنتظرُ قطاراً لن يصلَ في الوقتِ المُحدَّد، تتحرّك كنابضٍ مثبّتٍ بين بوابة المدخل وبوابة المخرج، تشربُ مياهاً غازيةً في باطن الأرض، تتجشّأ
تنتظرُ قطاراً لن يصلَ في الوقتِ المُحدَّد، تتحرّك كنابضٍ مثبّتٍ بين بوابة المدخل وبوابة المخرج، تشربُ مياهاً غازيةً في باطن الأرض، تتجشّأ
قبل أن تركعَ لذكريات مملّة وتصيبَ بقبضتكَ رأسَ الانتظار.
يحكون في الأنحاء عن كوكبٍ تائهٍ قد يصطدم بكوكبنا المنضبطِ،
ويرفع آخرون أنخاباً دون أن تفارقَ شفاههم كلمات عن الفوضى الضروريَّة لبقاءِ الاتّزان المُحبب.
في غفلةٍ تمرّ غمامة الأحزان، تُمطِر حزنَاً مُنعشاً وتختفي خلف الرّيح المُنعشة.
تشتدّ الرّيحُ فيتركُون البوابة الهائلة ويهرعون نحو النوافذ المغلقة،
يفتحونها على آخرها، وينظرون من خلالها إلى خيول ملوّنة
هبطت لتوّها من أحلامهم.
تأخذُ نفسَاً يأخذ هيئة تحذيرٍ، يصل القطار ممتلئاً بالمتأخّرين المتأفّفين،
الكلامُ حادٌ ورائحة العَرَق تستر كلَّ معانيه.
إنَّه الغضبُ
الذي تسوّره القوانين وتتعبه الضرائب.
إنَّه الغضب المسنّن حولكَ، فتخافُ
وتدخلُ في جوفكَ
مقفلاً خلفكَ
عينيكَ.
نظلُّ خلفَ آمالنا
نظلُّ خلفَ آمالنا،
حدقاتُنا منحوتةٌ في ظهرها مثل نقوشٍ قديمةٍ
وآثارُ خطاها أسرَّةٌ وثيرةٌ لأقدامِنا.
آمالنا التي تذرعُ الأرضَ قلقةً
تتقدّم فنتقدَّم
تميل فنميلُ
تنتصبُ في مكانها، فنتجمَّدُ في أمكنتنا كأعشاب في ليلِ كانون.
إنها دليلُنا الوحيد إلى المستقبل؛ لذا،
نظلّ نمشي خلفها بدقّةٍ،
نتعبُ، لكنّنا نكافحُ كيلا نضيِّعَ القادم من حياتِنا.
تتعرَّق جباهنا تحت الشمسِ اللاهبة، تتألَّم أرجلنا من المشيِّ اللانهائيّ ويقصُر تنفّسنا،
إلا أننا نمضي خلفها، بأمانةٍ، لأنَّها نهاية ما نحبُّ.
مع مضيِّ الزمن، تذبلُ ملامحها ويهزلُ قوامُها
وأحياناً نلمحُ بعضها يفنى في الرّيح.
إنها، رويداً رويداً، تتداعى؛
تتركُ لنا جهةً مفتوحةً على الفراغِ، وتورثنا هواءً منبعثاً من العدمِ
ويرشدُنا ضياءُ زوالها إلى بئر زوالِنا.
إنها، في النهاية، ستندثر تماماً
مثل قبلاتٍ تاهت في الضباب
ولن ينجو منها
إلا ظلال حكمةٍ سبقتْنا بكثير
دون أن تعرفَ أننا لاحقناها كالعشّاق وأنَّها غابَت قبل أن تُوْجَد.
دوماً
الذين لا نعرفهم جيّداً، ولم نقل لهم ما يكفي،
الذين لم ننظر إليهم حين كانوا ينظرون إلينا،
الذين شاءَ القدَر ألّا نسمعَ كلماتهم الموجّهة لنا،
الذين لم نعرهم انتباهنا في طوابير الانتظار أو أثناء المشي على ضفة النّهر، الذين لا نتذكَّر سوى أنَّهم عبروا،
وكذا، أولئك، الذين نسينا أن نستفسرهم عن أسمائهم بعد أحاديث شيّقة،
جميعهم،
يصيرون رفاقنا في الأحلام، نبكي على أكتافهِم في الكوابيس
وينقذوننا من الموتِ حينما نشردُ في الطرقاتِ،
يقدِّمون لنا المناديل حين نعطسُ في القطارات
وبإخلاصٍ يدلّوننا على المنافذ
حينما تضنينا شمس الظهيرةِ
في المدن أو الغابات.
دوماً ينظرون إلينا دون أن نراهم،
دوماً يعرفوننا جيّداً،
يسيرون خلفنا، أو بجانبنا، خطوة بخطوة،
ليظهروا أمامنا في لحظات الحاجة.
***
أركبُ كثيراً من الحافلات والميتروات دون أن أعرف وجهتها؛ هكذا أستقلّها وأنتظر مكاناً مجهولاً أهبط فيه. بهذه الطريقة تعرّفت على المدينة. وجدتُ أمكنةً ساحرة لم يتحدَّث عنها أحد، التقيتُ أناساً يعيشون في الهوامشِ، لن تصادفهم في مركز المدينة أبداً. عرفتُ المدينةَ قبل أن يحتلّها المركزُ وتُرهبها البنوكُ وناطحات السحاب،عرفتُ أصل المدينة، لبّه المُبعَد جانباً؛ وأدركتُ في تلك الأحياء، تحت أشجارٍ لا تلتفتُ نحوها أعين السياحِ، أسفل أبنية لم تصبح فنادق قط وأمام ساحات ساكنةٍ لا تتوسطها النوافير الهائلة، كيف أن المكانَ أقربُ إلينا مما نظنّ، كيف أن ما نراهُ في الزحام ليس
إلا غرق المكان في دمِه
وهذا الضجيجُ العارم ليس سوى اختناقه.
نقلا عن “ضفة ثالثة”