المعلّم والذئب سارق النار
المعلّم والذئب سارق النار، قصة واقعة قديمة، من تلك التي يتداولها الفلاحون تحت سقوف العرائش وأشجار التين التي يقطر من ثمارها العسل، وربما تعود إلى زمن الكلدانيين، حسب حكاياتهم الممزوجة دائماً بنكهة الأساطير المعلّم والذئب سارق النار، قصة واقعة قديمة، من تلك التي يتداولها الفلاحون تحت سقوف العرائش وأشجار التين التي يقطر من ثمارها العسل، وربما تعود إلى زمن الكلدانيين، حسب حكاياتهم الممزوجة دائماً بنكهة الأساطير. وما صيغتها الحالية إلاّ ترجمة لما يُقال، إن الحدث يعود إلى الأعوام الأخيرة فقط، أي لم يرق بعد إلى مستوى جريمة حرب. واليوم، رغم الالتباس والغموض الذي يلفّ هذه الحكاية القديمة – الجديدة، بعضهم لا يستبعد أن تتطور مع مرور الزمن، وتكتسب صيغاً وإحالات مثيرة حسب تناوب الرواة على سردها، وبالتالي إغناؤها بشخصيات مستجدّة وتفاصيل غير مسبوقة.
والقصة لا بداية لها، بينما نهايتها تبدو وكأنها محتومة، ويمكن لأي شخص أن يرويها من النقطة التي تروقه، متراجعاً أحياناً أو مستبقاً الأحداث أحياناً أخرى، ضمن إطار زمني مفتوح يسمح له أن يستعين، بين حين وآخر، بذاكرته أو بذاكرة ممّن سبقوه من الضحايا المُفترضين. واختياري للمعلّم وهو يتأهّب للسفر قبل ساعة تقريباً من الوقت المحدّد، لم يكن محض صدفة، إنما أردت من خلاله أن يتفحّص جيداً أغراضه المحشوّة في كيس من الكتان، وألّا ينسى الزوّادة والكتب التي كان يفضّل قراءتها في أماكن منعزلة دون أن يسمعه أحد، فغالباً ما كان يخرج على النصّ ويُعبّر بصوت عالٍ عن الأفكار التي تدور في خلده.
غير مقتنع من الخطوة التي يزمع القيام بها، حتى اللحظة الأخيرة، بقي المعلّم فريسة لحيرة لا يعرف هل يعزوها لمخاوف أفرزها ماضٍ مقلق، أو ربما لرِهاب مفاجئ حلّ به دون أن يدري، فقد سمع مرّة من زميل له أن المغامرة تنافي المنطق، ولكن كان من المتعذّر تصنيف هذه الخطوة ضمن ذلك السياق، رغم القواسم المشتركة التي تجمع بينهما وعلى رأسها المكان. إذ إنه خلال بحثه الدؤوب بين العامّة والكتب القديمة المحشورة في الخزانة مع مرطبانات المربّى واللبن المصفّى المنقوع بالزيت، اكتشف في أكثر من رواية متداولة، أن المغامرة تحتلّ حيّزاً مهمّاً من مسار الحادثة، إلا إذا كان عدد الأشخاص المشاركين فيها يتجاوز ضعفي المسافة ما بين بداية الحدث ونهايته، كما في قصته تماماً، التي كان مختار القرية يرويها في أمسيات الصيف، محذّراً الناس من الويلات والمخاطر التي يمكن أن تحدق بهم أثناء العراك مع الحيوانات المفترسة:
“ولمّا وجد الذئب أن المعلّم يريد النيل منه، اختبأ وراء شجرة وقال: أيها الأحمق، كيف لك أن تتعدّى على مخلوق بريء خرج ليؤمن القوت لصغاره؟ هيّا، أتركني وشأني، وإلاّ ستدفع الثمن غالياً!
ولم يكد يختفي الصدى، حتى جال في السكينة شيء غير منظور، وسُمعت جلجلة قوائم مخيفة تدكّ الأرض، التي اندلعت من أحشائها نار جامحة التهمت الأشجار والأعشاب في طرفة عين، ثم رقدت خانعة بجوار قدميه. تناول المعلّم أضمومة منها وعلّقها على غصن شجرة قريبة منه لتضيء المكان، فما كان من الذئب إلّا أن خرج من مخبئه، وبقفزة خاطفة تلقّف أضمومة النار بفمه وفرّ هارباً نحو الوادي وهو يتدحرج تارة ويعدو تارة أخرى.
– لن تهرب مني! صاح المعلّم بأعلى صوته، وانتابته الدهشة من الصدى الذي تردّد في قعر الوادي، واهناً وخجولاً. ولم تمض لحظات حتى أحسّ بأصابع فولاذية تُمسك بساعديه وتدفعه بقوة نحو الدّرب الملتوي بين حقول الزيتون حيث كانت تنتظره ناقلة جند مدرّعة. بعد سنوات طويلة، بعضهم يُقدّرها بعشرات الشهور وبعضهم الآخر بعشرات السنين، عاد المعلّم من معتقله، ووصل من تلقاء نفسه إلى قريته الصغيرة التي تتربّع على قمّة تل أجرد على الحدود السورية – التركية. في البداية، التزم الصمت، ولكن بعد أن فكّت الشيخة بدرية لسانه بضربة نعل قديم على خدّه الأيمن مستعينة بربّ الإنس والجان، أخذ المعلّم يروي قصته لمن يشاء، حتى للأطفال، دون أي شعور بالخجل أو الإحراج، لأن المُعتقل، كما كان يُردّد بعفوية تثير الأعصاب، هو مكان خيالٍ، ولا يمكن تحديد موقعه بالضبط إلا عن طريق التجربة الذاتية.
في أحد الأيام، بعد أن أدرك المعلّم، ولو متأخراً، أنه كان ضحيّة لأفكار لم تخطر على باله قطّ، طلب من السلطات اعتقاله مرة ثانية حتى يستعيد ما فقده من ذاكرته، إلا أن طلبه رُفض، لأن الأفكار التي لم تخطر على باله لا من قريب ولا بعيد، لم تعد تخطر على بالهم هم أيضاً. وبعد انتظار طويل في قبوٍ مُظلمٍ، اقتادوه إلى غرفة ضابط مهيب، تتلألأ على أكتافه النجوم وتجفل من رؤيته العقبان.
“يا بنيّ”، قال الضابط بصوت هادئ، دون أن يهوي بقبضته على الطاولة كما كان يفعل عادة في مثل هذه الحالات، “ما عدا الزمن، يبدو أنك فقدت الإحساس بالتغييرات التي طرأت على أرض الواقع أيضاً، فمنذ سنوات ونحن لم نعد نفكّر عن الآخرين. فأنت مثلاً تستطيع بعد الآن أن تفكّر وتتخيّل وتتصوّر بقدر ما تشاء، ونحن أيضاً نستطيع أن نغضّ الطَرْف بقدر ما نشاء. إلا أننا، نظراً للظروف السائدة، سنطبّق أفكارنا وتخيلاتنا وتصوراتنا بعد اليوم بطريقة ستعيد حتماً إلى الذاكرة ما كان لا يخطر ببالكم!”.
إلمامي إذن كان محدوداً للغاية – ردّد المعلّم بإحباط أليم بعد أن وجد نفسه فجأة في الشارع فريسة لمخاوف لا يعرف مصدرها – وربّما كان معدوماً. والحال، أعتقد أن الضابط محقّ، فقبل أن نتحدّث عن المستقبل، يجب أن ننفي بشدّة هذا الواقع، لأن ما نراه مُحالاً وبالكاد يُصدّق. ويبدو أنني كنت مخطئاً في رأي أيضاً، وإلاّ لما وجدت نفسي هنا، أمشي هائماً على وجهي في هذا البلد الذي لا أعرف اسمه! ربّما السويد، أو ألمانيا، أو لعلّني ما زلت عالقاً على الحدود بين صربيا وهنغاريا؟”.
في هذه الأثناء، تدخّل أحد الرواة، وهو عادة ما كان يظهر فجأة قبل الفجر بقليل على رأس مجموعة من المُلثّمين، وأدّعى أن أيّ شيء يمكن أن يقع بعد الآن، يجب أن نعيده إلى صيغة المستقبل حتى يبقى في متناول الجميع، ثم أخذ يُنشد ترانيم إلهية قال، إنها مستوحاة من الملائكة الذين يعيشون على أكتافنا! ويشاء بعض الرواة أن يكون ذلك اليوم هو الأخير من عقود مضت دون أن تؤرخها أية ذاكرة إنسانية، تاريخ مضغوط مثل حفنة تراب في قبضة اليد، وهو ما دفع المعلّم لكي يعيد الكرّة تلو الأخرى، وفي كل مرة كان الذئب يتلقّف أضمومة النار ويفرّ هارباً، تاركاً إياه عرضة لخيفة وبيلة ووجس يثخن الروح والجسد بآلام لا تطاق. مسلسل متناغم، طوراً يزداد وطوراً يتضاءل، والذاكرة أثناء ذلك، كانت تتفتت تحت وطأة القنابل العنقودية والفراغية، وتدفن تحت ركامها أزماناً وحقباً كانت لوقت قريب عوناً له ولغيره لكي يحلموا من جديد. بعد لأي وتردّد طويلين، لم يجد المعلّم مفرّاً من استعادة ذاته، فقصد جبلاً قريباً ليبدأ مغامرته من مكان مرتفع، وبما أن الارتفاع كان نسبياً، لأن السهول كانت قد تحولت إلى يباب والمدن إلى أنقاض، استغرق عدة ساعات للوصول إلى المكان المقصود. نجمة القطب كانت ترقد على خدّ السماء، والضوء الأزرق القادم من أعماق الدغل الغارق في السواد، كان ينساب هادئاً مع جدول الماء الذي يسري بمرح مفتعل بين ثلم الصخور. بعد بحث قصير في الجوار، وجد المعلّم مكاناً لخيمته بين شجرتي حور باسقتين، ثم صعد إلى قمّة التلّ ليرصد حركة الرياح. كانت الساعة لا تزال تشير إلى التاسعة والنصف ليلاً، رغم مرور أكثر من ساعتين على وصوله إلى هناك. حينئذ، أيقن أن الزمن كان قد توقّف عن دورته، ولم يدرك السبب إلا عندما شمّ رائحة قوية كانت تغزو الأرجاء على دفعات متتالية مثل أسراب من النحل الخفيّ،، وتفرض السكينة والوجل على كلّ شيء. انتظر قليلاً علّه يسمع صوتاً ما، أو أي شيء يدلّ على الحياة، إلا أن السكون المُطبق كان يبدو وكأنه فرض سطوته على كل الكائنات الحيّة. في هذه الأثناء، وبينما كان يُضرم النار في جوف صخرة ترفع خيشومها بخيلاء نحو الأعلى، رأى ظلّ الذئب يتراقص مع اللهيب، ثم يعلو ويتلاشى بين سديم كوني عرف فيه درب التبّانة الذي يصل الأرض بغياهب الفضاء. إذن، ها هي اللحظة الحاسمة، قال في نفسه، ثم تساءل: هل أبدأ مغامرتي الآن أم بعد منتصف الليل؟ إلاّ أن عواء مخيفاً انطلق من أعماق الليل، وتحوّل بين لحظة وأخرى إلى عاصفة هوجاء، اقتلعت الأشجار والنباتات من جذورها، وهوت بالحجارة إلى قعر الوادي السحيق. هنا بدأ المعلّم يبتسم، رغم أن الموقف برمّته كان يُنذر بكارثة لا يمكن الإفلات من براثنها، لأن ابنة المختار التي كان يحبّها بكل ما أوتي من قوة، كانت تدوس على أضلاعه بقوائمها الأمامية بنشوة من كان ينتظر ثأراً قديماً، بينما عيناها المشعّتان تقدحان شرراً. ليلته الحمراء التي كان ينتظرها، منذ ما يقرب من أربعين عاماً، ها هي تتحقّق، ولم يبق أمامه سوى المضيّ قدماً وإلا سيُدفن مع رغبة ستُلهب جوفه إلى يوم القيامة. أمسك بها من رقبتها وشدّها نحوه، أحسّ بأنيابها تنغرس في صدره والليل الدامس يتلوّن بدمه.
بعد أن انتهى بنا المطاف في أحد مخيمات اللاجئين في الأراضي التركية، كنا نجتمع بعد العشاء وأحد الرواة المُندسّين ممّن يملكون صوتاً رخيماً وإبداعاً فطرياً، كان يجلس على حافة الساتر الترابي ويروي لنا قصته:
“رحل الولهان في ليلة كهذه وهو يحمل في جعبته غطاء من الصوف وبعض الطعام ليقتات منه أثناء رحلته الطويلة، وبينما كان يعبر وادي السكون، التقى وجهاً لوجه بذئب تراءى له فتاة يانعة، ومأخوذاً من هلوسة غريبة، ناداه: صبيحة! آه يا للحلم السعيد، كنت أعرف أنك مختبئة هنا ولم أصدق أبداً رواية أبيك. وردّ الذئب بصوت أجشّ وهو يفكر في غنيمته اللذيذة: وأنا كنت أعرف أنك ستأتي في يوم ما، ولم أتعب أبداً من انتظارك! وعند تلك اللحظة فقط – تابع الراوي بتعبير ينمّ عن حزن دفين – شعرتُ برأفة عميقة تجاههما وبدرت مني إشارة غير مقصودة، ولم أدر أبداً فيما إذا كانت نفس الإشارة التي ينتظرها القنّاص المتمركز على سطح مبنى البلدية، أم أنّه اتّخذها ذريعةً ليطلق النار عليهما ويرديهما قتيلين، إلا أن كرّاسات المعتقل التي كتبها المعلّم بخطّ يده، ما عدا الجزء الأخير الذي أكمله السجّان واصفاً فيه أيامه وساعاته الأخيرة، تدحض هذا الرأي، ملقية اللوم، كل اللوم، على من استباح دماء غيره بعذر يبدو أقبح من ذنب. وهذا التعبير الذي يشي ببلاغة سمجة، كان يخفي وراءه زمناً طويلاً من الانتظار المؤلم في معتقل لا يُعرف، حتى الآن، فيما إذا كان حقيقة أم ثمرة خيال، تماماً مثل قصة الذئب الذي سرق أضمومة النار، والعياذ بالله”.
نقلا عن ضفة ثالثة