اعتاد كثير من الناس خلال الشهر الفضيل وما قبله التنافس والتسابق على تلاوة القرآن بمعيار الكم لا بمعيار التدّبر والتفكّر الذي أمر الله تعالى به، مأخوذين ببريق المظاهر الذي يمنح الأهمية للكم لا للكيف و ينجذب للشكل من دون نفاذ إلى عمق المعنى.
اعتاد كثير من الناس خلال الشهر الفضيل وما قبله التنافس والتسابق على تلاوة القرآن بمعيار الكم لا بمعيار التدّبر والتفكّر الذي أمر الله تعالى به، مأخوذين ببريق المظاهر الذي يمنح الأهمية للكم لا للكيف و ينجذب للشكل من دون نفاذ إلى عمق المعنى.
فعلى الرغم من أن الله تعالى لم يأمر في كتابه الكريم بحفظ القرآن فكل الأوامر تتجه لتغذي موضوع التدبر ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) ص ، بعد أن تكفل الله تعالى بحفظ كتابه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ، إلا أن البشر صبوا كل اهتماماتهم وجهودهم في المؤسسات المعنية بتعليم القرآن الكريم وعبر وسائل الإعلام المتنوعة على في فكرة الحفظ وحدها، في حين يغيب عن الإعلام أي برنامج أساسي في موضوع التفكّر والتدّبر في الكتاب وعرض تصور شامل متماسك لهذا الدين.
ذات مرة كنت اناقش أحد أقربائي استحثه على القراءة لتطوير الذات وتصحيح المفاهيم وفهم الحياة، بدلاً من تضييع الوقت في اللهو واللعب والقيل والقال، تلك الأمور التي تجعل الإنسان يعيش على هامش الحياة، مستشهدة بأول كلمة في الوحي التي افتتحت عصرا جديدا هو عصر العلم ألا وهي كلمة ( اقرأ )، فإذا به يصرخ ويوضح لي خطأي في التفكير : اقرأ كتاب الله وليس هذه الكتب التي تضيعين وقتك فيها ..!
واذكر أن إحدى صديقاتي من حافظات القرآن الكريم كانت تنصحني -وهي خائفة عليّ- بأن أترك هذه القراءة في كتب التاريخ والمعرفة والفكر التي لن تنفعني كما قالت، وأن ألتجئ إلى حفظ القرآن الكريم فهو وحده الذي سيحقق لي الفائدة والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة..!
تُرى أحقاً هذا هو الدين ..! هل هذا الموروث السائد في ثقافتنا يمثل حقيقة الدين؟
اعتزال الحياة الدنيا وزينتها، وانغلاق عن العالم ! عكوف على الشعائر التعبدية وحدها ! هل حقاً يأمرنا القرآن بذلك ؟ .. أم أن الدين ينزع عن الإنسان قيوده لينتشر في العالم الفسيح معمّراً فيه روحاً ومادة!
للأسف فإن مهمة التفكير قد توقفت وصرنا نمضي مع الكتاب ونحن مطوقين بمفاهيم قديمة تناقلناها عن الفكر الديني التقليدي، فتوقفت -تحت تأثيرها- عملية التفكير والتدبر في القرآن التي أمر بها كتاب الله على اعتبار أنها قد انتهت عند السلف، وما علينا إلا إطفاء تساؤلات عقولنا واتباع تلك المفاهيم التي رفعوها إلى مستوى دين السماء والعض عليها بالنواجذ..!
تعالوا نُلقي نظرة خاطفة لعلها تساعدنا على تشكيل تصور عام عن محتويات هذا الكتاب الذي نتلوه .. فربما تعيننا على التفكّر فيه وتدّبره في الشهر الفضيل وأيامنا القادمة ..
القرآن يجيب على أسئلة الإنسان المتعلقة بالوجود والمصير ، ويوجه اهتمام الإنسان نحو العلوم المختلفة ويوقظ في العقل عملية التفكير والتدبر من خلال وسائل المعرفة، السمع والبصر والفؤاد، ويرسم للإنسان فضاء عالم علاقاته الأسرية والاجتماعية وعلاقاته بالإنسانية والعالمين، كما يهدي إلى المنظومة القيمية التي تضيء حياة البشرية بقيم الخير والحق والجمال .
فهو يجيب على أسئلة الوجود والمصير، من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وما هو دورنا في الحياة؟ وما هي علاقتنا بالماضي وما هو دورنا في الحاضر ؟ وما هو المستقبل الذي ينبغي أن تتجه إليه كل اهدافنا؟
ويركز أولويات الإنسان على الاهتمام بالعلوم بعد أن افتتح الرسالة الخاتمة بهذه الآية : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ، ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ) فربط بين كرم الرب وبين القراءة، فالأكثر قراءة يعني الأكثر نيلاً لكرم الرب.. وحدد مصادر المعرفة، وهي :
آيات القرآن: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد ، وتاريخ البشرية وتجاربها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ) 111يوسف (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) ال عمران ، و الكون المحيط والكائنات أيضاً مصدر ((أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19})(الغاشية). ..) والإنسان في ذاته وخلقه مصدر: وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) الذريات .. وهكذا أصبح الخلق ، كل الخلق بماضيه وحاضره، على أرض الله تعالى وفي علياء سماءه، كله مجال النظر والدراسة والتعلم. فكيف تُصبح قراءة التاريخ والعلوم المختلفة ترفاً وبعداً عن سبيل الله..!
بعد الآيات التي نادت بالعلم والمعرفة من مصادر متنوعة توالت الآيات الداعية إلى عملية التفكير، والتدبر وعدم التسليم والاستسلام لمقولات الآباء والأجداد لأن ذلك التسليم للأقدمين وتقديس ما وصلوا إليه وإيقاف عملية التفكير عندهم يشكل حائلاً دون تراكم المعرفة، ودون رؤية الأمور من ابعاد متنوعة، بميزاتها وعيوبها الأمر الذي يشكل عائقا دون تطوير الأفكار وتلافي نقاط ضعفها، ومن ثم يصبح عائقا أمام تقدم البشرية.
والقران ينظم فضاء علاقاتنا الأسرية بما شرّعه من احكام في هذا الشأن، وينظم أيضاً فضاء علاقاتنا الإنسانية في ظل التنوع العرقي والديني والمذهبي ومصالح البشر المتداخلة التي فطر الله تعالى الخلق عليها، فرسم القرآن الكريم سقفاً عالياً لهذه العلاقة فقال: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (13) الحجرات.. التنوع من أجل ان يعرف البشر بعضهم بعضاً ويتبادلوا المنافع والمصالح، كما نظم القرآن أيضاً علاقات السلم والحرب، ففي السلم له علاقات، والحرب له عالم علاقات مختلف ..
ونجد أيضاً في الكتاب الكريم المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تقوم عليها حياة الأمة والعالمين من نحو : ( العدل، والمساواة ، الحرية، الكرامة الإنسانية، بر الوالدين، الصدق، الأمانة، الحب، الرحمة، التعاون، العفو والحلم و التسامح، الكلمة الطيبة ، الزكاة، الصدقة ، فعل الخير، المبادرة، التقوى، المسؤولية .. )
في جانب الاعتقاد وأسئلة الوجود فقد جاء القرآن بإجابات شافية عنها، وفي جانب العبادات والعلاقات الأسرية فقد جاء مفصلاً فيها، و أما جانب العلم والمنظومة القيمية والعلاقات العالمية فتلك الفضاءات تستلزم من الإنسان أن يستخدم قواه العقلية في فلسفة تلك القيم والمبادئ الهادية والمرشدة معتمداً على تغذية العقل من مصادر المعرفة التي هدى إليها الكتاب، ومن ثم إيقاظ وعي المجتمعات بها وتحويلها إلى إجراءات تجعلها حاضرة في الواقع العملي، وإيجاد ضمانات بقائها حية على الأرض ..
تُرى هل نقرأ القرآن ونحن نستحضر تصورا عاما متماسكا لهذا الكتاب الذي نتلوه ونتفكّر فيه، ونستشعر المسؤولية المُلقاة على عاتقنا والتي تجعل الإنسان في حالة مستمرة من الإقبال على المعرفة، والتفكير والتأمل فيما بين يديه من معطيات الواقع وعلوم بتجرد من الهوى , وغوص إلى عمق الأفكار والأشياء والظواهر ليستكشف الحقيقة، ثم يحلق من ذلك العمق إلى الفضاء الواسع الذي يجعله يرى الأشياء كلها وهي تتداخل تؤثر وتتأثر في بعضها البعض لا منفصلة ومعزولة عن بعضها، فيدرك حينها الأمور على حقيقتها، ومن ثمّ يُحسن فلسفتها ويجيد وضع الحلول العملية لها. أم سينتهي بنا الأمر في نهاية الشهر الفضيل عند عدد المرات التي ختمنا فيها كتاب الله تعالى وحسب..!