الإسلام شرع لنا أن نذهب في كل أمر إلى خبرائه نسألهم عنه، ونستفتيهم فيه، استجابة لقوله تعالى: (فاسأل به خبيرا) وقوله: (ولا ينبئك مثل خبير) وأهل الاختصاص في هذا الموضوع هم الأطباء النفسيون.
كنت أحدث صديقي عن ظاهرة انتشار عيادات العلاج بالقرآن أكثر من انتشار عيادات الأطباء النفسيين، وعن إقبال الناس على العيادات الأولى أكثر من الثانية، برغم أن ما يعالجونه ليس إلا اضطرابا نفسيا يحتاج إلى طبيب وعلاج نفسي وأن التردد على المشعوذين والمعالجين بالقرآن قبل الطبيب النفسي يضاعف المشكلة ويعمقها أكثر مما يقدم علاجا!!
– يقول صديقي: لماذا جعلت المعالجين بالقرآن بجوار المشعوذين؟ ألم يقل القرآن: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً” الإسراء:82 ؟
قلت: نعم يا صديقي لا أنكر أن القرآن شفاء ولكن ما نوع شفائه؟ تأمل معي آية أخرى تقول: “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين” لقد جاءت الآية الأولى مطلقة، وبإمكان ذلك الإطلاق أن يجعلها شفاء لكل الأمراض الجسدية والنفسية، فمن اعتلت معدته قرأنا عليه قرآنا، ومن التهبت عنده الزائدة الدودية قرأنا عليه قرآنا، ومن من شج رأسه قرأنا عليه! ولكن لا أظنك يا صديقي تقول بذلك الإطلاق؟
نعم، لا أوافق..
إذن فالآية مقيدة بآية الأخرى ومقيدة بالعقل، أما تقييدها بالآية الأخرى فقد جعلتها شفاء لما في الصدور، وأما تقييد العقل لها فلم نسمع أن صحابيا أو تابعيا فتح عيادة أو اشتهر عنه علاج الناس بالقرآن وإنما كانوا يتداوون عند من اشتهر عنهم الطب، والنبي كان يتداوى عند الحارث بن كلده الثقفي..
وما المقصود بشفاء لما في الصدور؟
شفاء لما في الصدور من الشك والحيرة والعمى عن الحق، وما يدور في الصدور من أسئلة عن الإنسان والكون والحياة..
والأمراض النفسية أين مكانها؟
صحيح أن الاطمئنان النفسي هو أحد نتائج اطمئنان القلب بالإيمان، ولكن الاضطرابات النفسية الذهانية لا تفرق بين قوي الإيمان وضعيفه، فهي كالأمراض الجسدية تصيب أي إنسان سواء كان متدينا أو غير متدين.
– ولكني وجدت أن أمراضاً ممن يقال فيهم سحراً قد شفوا عندما قرأ عليهم الشيخ آيات من القرآن؟
قلت: وهل الشفاء مقترن بالقرآن ذاته أم الشيخ؟
بالتأكيد بالقرآن ذاته.
إذن فلماذا لا نسمعه من الأشرطة وبصوت أكبر قراء العالم الإسلامي؟ ولماذا يستخدم أولئك الشيوخ الضرب للمريض والضغط على أماكن في الرقبة ويستخدمون الكهرباء والماء الذي يزعمون أنه مقروء عليه؟ وقد اكتشف بعض الأطباء النفسيين أنهم يضعون فيه حبوباً من علاجات الأمراض النفسية ثم يدعون أنه مؤثر بفعل قراءة القرآن عليه! وهل كل من يذهب لأولئك الشيوخ يتعافى؟ وماذا سنقول إن ذهبنا بشخص مريض وقرأ عليه الشيخ أو سمع القرآن فلم يتعافى؟ هل نشك في قدرة القرآن العلاجية؟
وبماذا تفسر تلك الحالات التي تشفى؟
قلت: إنها ليست ظاهرة في العلاج بالقرآن فقط، وإنما هناك شعوب تعالج بالإنجيل وبالتوراة وباليوجا وفي كل شعب بحسب معتقداته، وكل أولئك يتحدثون عن وجود تأثير ما.
إذن فما تفسير ذلك؟
هناك ظاهرة طبية اسمها “الأثر البلاسيبي” وهو تحسن صحي مُحَس ومُلاحظ، لا يعزى إلى العلاج، والبلاسيبو هو دواء أو إجراء علاجي وهمي يقدم للمريض على أنه علاج حقيقي فيحدث تأثيرا، فقد يعطى حبوبا من السكر أو النشا على أنه حبوب علاجية، وقد يجرى له إجراء جراحي زائف، أو علاج نفسي زائف. وفي الدراسات الطبية عن الأثر العلاجي الحقيقي لدواء مقترح يستخدم الباحثون -إلى جانب مجموعة المرضى الذين يعالجون بالدواء- مجموعة ضابطة، تتناول البلاسيبو بدلا من الدواء الحقيقي، وذلك حتى تتسنى ملاحظة الفرق بين تأثير العلاج الحقيقي وتأثير العلاج الوهمي (إذ إن للعلاج الوهمي تأثيرا) وقياس مدى أفضلية الدواء الجديد على البلاسيبو، والبرهنة من ثم على أنه علاج حقيقي فعال يمكن أن يفيد في كل الحالات التي تتشابه في نفس المرض.
يرد بعض الباحثين هذا الأثر البلاسيبي إلى مجرد شعور ذاتي بالتحسن كنتيجة للاعتقاد في العلاج والإيمان بتأثيره الشفائي، ويرده البعض إلى المسار الطبيعي للمرض بما يعتريه من اشتدادات وهدآت وفترات هجوع طويلة وتراجع طبيعي، وربما الشفاء التلقائي التام كمآل طبيعي لبعض الأمراض والإصابات.
غير أن تراكم الأبحاث المؤيدة للأثر البلاسيبي يشير إلى أن الأمر أكبر من مجرد إحساس ذاتي زائف، بل ثمة تحسن حقيقي مشهود وموثق ومقيس، حتى في بعض الأمراض العضوية!
وقد تمت عدة تجارب على بعض الأمراض العضوية فتحسنت، وفي ضوء تلك النتائج الملموسة ربما يكون التفسير الأمثل لظاهرة “الأثر البلاسيبي” هو التفسير البيوسيكولوجي، فمن الواضح أننا بإزاء ظاهرة معقدة ربما لا يسعها إلا تفسير مركب يضفر التفسير النفسي بتفسير بيوكيميائي، فمن شأن الاعتقاد في العلاج ومشاعر الاهتمام والرعاية، والمساندة والتشجيع والأمل، التي يبثها الموقف العلاجي أن تستفز في الجسم آليات فسيولوجية تفضي إلى أثر فزيقي حقيقي، قد يكون هذا الأثر من خلال إطلاق “الإندورفينات” في مواضعها ومساراتها العصبية، وقد يكون من خلال حفز جهاز المناعة..
لعل هذا الهامش الشفائي الذي يتيحه الأثر البلاسيبي (إلى جانب الهجوع التلقائي للمرض) هو الباب الموارب الذي ينفذ منه الدجالون والادعياء، ممن يدعي علاج حالات بغير العلاج الطبي المعروف.
وما هي المشكلة إن تم الشفاء حتى بتلك الطريقة؟
أولا تلك حالات نادرة جدا وليست في كل الأمراض فالأورام والجروح والنزيف وغيرها كثير لا يفيدها ذلك الأثر، ثانيا استخدام ذلك النوع من الأثر البلاسيبي يغطي على مسار البحث الطبي الجاد والحقيقي، ويضل الناس عن العلاج الحقيقي إلى العلاج الوهمي، ثالثا إن أصحابه يأخذون مبلغا من المال ليقدمون وهما لا علاجا حقيقيا، وهذا يندرج تحت أكل أموال الناس بالباطل.
ثم إن الإسلام شرع لنا أن نذهب في كل أمر إلى خبرائه نسألهم عنه، ونستفتيهم فيه، استجابة لقوله تعالى: (فاسأل به خبيرا) وقوله: (ولا ينبئك مثل خبير) وأهل الاختصاص في هذا الموضوع هم الأطباء النفسيون.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.