وهذا شاعر آخر اشتهر بواحدته الفاتنة في سياق الشعر العربي كله، فكانت تلك القصيدة الواحدة ملاذا لقلقه الوجودي المبكر، ومتكأً لروحه النزق، ونسبا رفيعا له هو المختلف حول نسبه أماً وأباً. وهذا شاعر آخر اشتهر بواحدته الفاتنة في سياق الشعر العربي كله، فكانت تلك القصيدة الواحدة ملاذا لقلقه الوجودي المبكر، ومتكأً لروحه النزق، ونسبا رفيعا له هو المختلف حول نسبه أماً وأباً.
إنه الشنفرى، وإنها لامية العرب، وبينه وبينها أكثر مما بين الشاعر وقصيدته عادة من علاقة تتبدى في غيرها من القصائد، فقد كانت اللامية الأشهر في ديوان القصيد العربي، وكانت الإشارة الإبداعية الأولى لصعاليك العرب الذين اشتهروا في مرحلة ما قبل الإسلام ثوارا على مألوف المجتمع وعادات القبيلة وتقاليد ذلك الزمان، ولكل منهم أسبابه التي تفرقت لكنها جمعتهم في مفازات العرب لا يخشون لومة لائم ولا صولة صائل، لكنها النفس الأمارة بالحرية دليلهم ومبتغاهم.
ولأننا لا نجد تاريخا محددا نطمئن إليه لولادة هذا الصعلوك الذي اشتهر بلقبه اسما، أو باسمه لقبا، ولا مكان جغرافيا ثابتا يمكن أن نتسلسل في تتبعه فلا مفر إذن من اعتماد لاميته وحدها مرجعا نهائيا لمعرفة أحواله ورسم صورة تقريبية لهذا الشاعر الموغل في الزمن، والباحث عن أمجاده على مدى بطولات مسورة بقيم إنسانية مازالت قادرة على مقاومة كر الأيام وفرها.
لقد أمعن عمرو بن براق، أو ثابت بن أوس، أو ثابت بن جابر، على ثلاثة أقوال، والمشترك فيها الشنفرى الذي يضعه البعض اسما مقترحا رابعا، في حين يضعه البعض الآخر لقبا يدل على غلظة شفتيه وحسب، في رسم ذاته مخلصا لها من خلال أبيات لاميته التي بلغت 68 بيتا في أشهر الروايات وأرجحها. وفي استقراء لبعض شروحاتها المتنوعة نعرف، من دون اطمئنان، أنه نشأ يتيم الأب في قبيلة «فهم» التي لجأت إليها والدته بعد أن قتل والده على يد بني سلامان من قبيلة الأزد، ولهذا يرجح كثير من مؤرخي الأدب والأدباء أنه خص بغزواته بني سلامان الأزديين ثأراً لوالده وانتقاما منهم على استعبادهم له ولوالدته ردحا من الزمن، لم يكن يعرف فيه أصله الحقيقي ولا نسبه الرفيع. فلما عرف – كما تروي الحكايات التي لا تخلو من طرافة ومفارقات – استعد لرحلة الثأر التي سالت فيها دماء ما يقرب من مائة رجل من هؤلاء الأعداء.
ويبدو أن الطبيعة قد تحالفت مع هذا اليتيم المستضعف فخصته ببعض من هباتها السخية، حيث كان الشنفرى سريع العدو لا تدركه الخيل حتى قيل في أمثال العرب: «أعدى من الشنفرى». وعلى هذا الصعيد تروى الحكايات التي لا تخلو من النزعات الأسطورية والخرافية. وكان يغير على أعدائه برفقة شاعر وصعلوك فتاك آخر هو «تأبط شرا» الذي علمه الصعلكة في البراري والسروات والمفازات القاحلة.
وعلى الرغم من تلك الرفقة – التي اتسعت بعد ذلك لتصير قبيلة من الصعاليك منهم عروة بن الورد والسليك بن السلكة – فإنه مات قبل 70 سنة من الهجرة المحمدية وحيدا شريدا مغدورا على يد أعدائه الذين تكاثروا وتعددت أسباب ملاحقتهم له، وتوحدوا في الحقد عليه والرغبة العارمة في النيل منه وربما الغيرة من تلك الشخصية الفائضة في مفازات الألم والحرمان، ولكن أيضا الإبداع حيث اللامية التي صارت لامية العرب رغما عن أنف الذين شككوا بنسبه العربي واستكثروا عليه حريته ولاميته أيضا، حتى أنهم لم يضموها لمعلقاتهم الشعرية السبعة (أوالعشرة في بعض الروايات)، ولم تعلق على أستار الكعبة، كما كان يفعل بكل القصائد التي اجتازت الاختبار الجمعي لذائقة الجماعة العربية في جاهلية الشعر، على الرغم من تفوقها الذي لا ينكره متذوق للفن غير منحاز لأهوائه العنصرية. ولم يكن ليليق بهذه اللامية الممجدة لقيم الصعلكة في هامشها الإنساني النبيل، فقد كانت الإشارة والمنارة، والعلاقة والطريق، وصارت فيما بعد الأيقونة التي قدمت لأدب الصعاليك تاريخه كأوثق ما يكون، وشعريته كأحلى ما يمكن.
لقد ركض ابن السروات الشاسعة وراء حلم اجتهد في تحقيقه بتلك الخطوات الواسعة بحثا عن كينونة كائن بشري طواه اليأس واستبد به الأسى فقرر أن يرحل سريعا من مضارب القبيلة المتعجرفة دفعا للأذى الذي لحق بروحه في مجتمع يمارس طبقيته وفقا لحسابات الموروثات، لكن الأرض تقدم له اقتراح البعد بصفته المنأى عن ذلك الأذى المستبد، شرط أن يتسامى عن كل ما يكبل الجسد والروح من احتياجات مادية تعيق الحركة. وهكذا يجد الشنفرى نفسه طائرا بجناحي الشعر، لا يكاد يمس الأرض إلا قليلا… وإلا ليسمع الوجود كله لاميته التي اقتنصها العرب لأنفسهم، على الرغم من بعدها الإنساني الباهر.
نقلا عن مجلة العربي