فكر وثقافة

“شمسٌ على نوافذ مغلقة”: كتابةُ الحرب

عماد الدين موسى

   على امتداد 544 صفحة متنوّعة ما بين روايةٍ وقصٍّ وشعرٍ، يأتي كتاب “شمسٌ على نوافذ مغلقة/ مختارات من أعمال الأدباء الليبيين الشباب”، كوثيقة ضخمة تحوي ترتيباً للألم الذي دوِّن بأقلامٍ شابَّة خلال فترة الحرب أو ما يمكن القول عنه: “خلال المرحلة الانتقاليَّة في ليبيا من حكم الفرد للديمقراطيَّة المنشودة”.    على امتداد 544 صفحة متنوّعة ما بين روايةٍ وقصٍّ وشعرٍ، يأتي كتاب “شمسٌ على نوافذ مغلقة/ مختارات من أعمال الأدباء الليبيين الشباب”، كوثيقة ضخمة تحوي ترتيباً للألم الذي دوِّن بأقلامٍ شابَّة خلال فترة الحرب أو ما يمكن القول عنه: “خلال المرحلة الانتقاليَّة في ليبيا من حكم الفرد للديمقراطيَّة المنشودة”.
الكتاب، الصادر عن مؤسسة أريتي للثقافة والفنون ودارف للنشر في ليبيا، ومن تحرير خالد المطاوع وليلى نعيم المغربي، بالإضافة للنصوص المختارة، يتضمن مُفتتحاً بقلم الدكتورة فريدة المصري، ودراسة تمهيديَّة كتبها أحمد الفيتوري بطريقةٍ تحليليَّة تكشف عن الغاية المرجوّة من  “أنطولوجيا” تُعنى بالأسماء الشابَّة والتي تعطي بعداً أوسع لمفهوم الكتابة المحليَّة.

يسعى الكتاب – وفقاً لما ورد في مقدمة المحرّرين – إلى “لفت الانتباه لجيل جديد من الكتّاب والاحتفاء بإنجازهم بتوفير منبر تصدر منه أصواتهم لأكبر عدد من القرّاء وللإعلان عن مكوّنات جيل جديد من الأدب الليبي”.

خطّة الكتاب

رغم الزخم الكبير من الأسماء المنتقاة لها، إلا أنّ أساليبها الكتابيّة مختلفة تماماً، لتأتي الأنطولوجيا كمصدرٍ ثريّ يمكن الاعتماد عليه للاستدلال على حال الكتابة الليبيَّة الشابّة، المفردة الأخيرة التي باتت مصطلحاً أدبيَّاً بحدّ ذاته دالاً على فترة ازدهارٍ كتابيَّة، حيث تحاول تلك الأقلام “تمزيق كلّ الأقنعة وتكسير كلّ الغرابيل الني تغطّي الشمس بعيونها الدقيقة”. والحال هذه ثمةَ جهدٌ وضعيّ لإنهاء الكتاب وخطّة ما لتبويب أو محاولة لوضع تبويبٍ ما كتابيّ يلعب دور المفسِّر لأحوال الكتابة الراهنة.

جليٌّ هو الجهد المبذول في الكتاب، من خلال الجمع وآليَّته المعقّدة، فمن الصعوبة بمكان جمعُ نصوصٍ تحت سقف الخراب وأشلاء الضحايا الأبرياء في حربٍ دمّرت كل شيء، لكن النهوض مجدّداً ثيمة الحياة بالنسبة للشعوب التي تخوض الحروب بشبابها!

يتضمّن الكتاب 25 قلماً شابَّاً مختلفاً ما بين روايةٍ وقصصٍ قصيرة ونصوص شعريَّة مختلفة الطرح ولكنها متشابهة في محاولات التجديد أو العمل على تقديم الصورة الأبهى للكتابة الشابَّة.

ثمّة بعدٌ تاريخيّ للكتابة الليبيَّة فرضتها الحرب ومآلاتها العديدة التي طرحت مدارس تجديديَّة في الأدب، بدءاً من مولد الدعوة السنوسيَّة على يد السيد محمد بن علي السنوسي والمراحل التي خاضتها البلاد في تاريخها الحديث من العهد التركيّ إلى فترة الاستعمار الإيطاليّ والنضال ومن ثمّ لتأتي مرحلة قرار الأمم المتّحدة باستقلال ليبيا المتزامن مع بناء المملكة الليبيَّة وتشكّل المجلس الاستشاري الدولي للإشراف على نقل السلطات من الإدارة العسكريَّة الأجنبيَّة إلى حكومةٍ مؤقّتة ووضع الدستور من قبل الهيئة التأسيسيَّة وإعلان الاستقلال في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951، كلّ تلك المراحل أفرزت أجيالاً كتابيَّة دأبت على تأريخ الأدب الليبي كتابةً وألماً، فنحن سنتّفق على أنّ الكتابة تولد من رحم البيئة التي تعيش فيها وتتأثّر بالحرب أو الرخاء على حدٍّ سَواء، أي أنّ مقادير تأثيريَّة تلعب دورها البارز في وسم تلك الكتابة وطبعها بعناصر تأثيريَّة مختلفة، تختلف حساسيّتها من جيلٍ إلى آخر، لذا فإن النصوص المختارة والواردة ضمن “الكتاب/الأنطولوجيا” تركّز على الحال الرّاهنة للكتّاب الشباب – التي هي في المحصَّلة حال الشعب برمّته من مختلف الفئات الاجتماعيَّة – وفقَ حساسيَّة مختلفة من كاتبٍ إلى آخر، الأدوات التعبيريَّة تختلف حقَّاً ولكنّ الزبدة الأساسيَّة هي ما تهمّ القارئ، أي تكوينُ صورةٍ ما معيَّنة عن الأدب الليبيّ الشابّ، البلد العربي المُنهك من القمع والحروب والمنع.

ثمّة خطّة واضحة للبدء بالجمع، أشياءُ عديدة تنقل من خلال الأجناس الأدبيَّة المتنوّعة، واقعاً اقتصادياً نفسياً واجتماعيَّاً وسياسيَّاً من خلال الشخصيات الواردة ضمن القصص والرواية والأصوات داخل النصوص الشعريَّة كناقلٍ لتلك الوقائع، الأدب تأريخاً للواقع وتسطيراً للألم الذي يعتور الشبّان، وربمّا سننجح بالتأكيد في تعميم تلك التجارب على كلّ الواقع العربي الذي يرزح تحت وطأة حروبٍ أرهقتها وأنهكتها.

“على أرضي حرب، في قلبي حبّ”

في معرض دراسته للأنطولوجيا، ينحو أحمد الفيتوري منحىً مغايراً عندما يقول عن تلك الكتابات أنّها: “كتابات شابَّة” وليسوا: “كتّاباً شباباً”، مستدلّاً في ذلك على تجارب الأبويَّة في الكتابة، حيثُ النصيحة التي تفرضها الخبرة والمران في القراءة والكتابة، غير أنّ الفيتوري أيضاً يدلّ على مجموعة نقاط هامّة يمكن الاستناد إليها للبدء بالقراءة، ومن تلك النقاط أنّ الكتابات الواردة في الأنطولوجيا التي بين أيدينا هي لكتّاب: “جلّهم في العقد الثاني من العمر ومنهم من في أوّله وقد كتبوا نصوصهم خلال السنوات الخمس الماضية أي في خضّم ثورة فبراير/ شباط وما أعقبها من تحاربٍ أهليّ”، كما أنّ التقسيم اعتمد على التنويع في المحتوى، فثمّة: “خمسة وعشرون كاتباً وكاتبة، الكاتبات إحدى عشرة والكتّاب عددهم أربعة عشر، تتراوح المشاركة بين نصٍّ واحد وأربعة عشر نصّاً، والمحتوى يضمّ ثلاثاً وثمانين من القصائد والنصوص، وستّاً وعشرين قصّة، وفصولاً من رواية واحدة هي الكتابة الوحيدة المكتوبة بالعاميَّة، وتأتي فهرسة الكتاب حسب التسلسل الأبجديّ”، كما أنّ: “الكتابات الشعريَّة والنثريَّة والسرديَّة ثمّة عنوان لها يختزل الكثير من موضوعاتها: “على أرضي حرب، في قلبي حبّ”.

تكاد تكون مقدّمة الفيتوري تحليلاً لكل ما هو وارد في الأنطولوجيا، حيث المقدّمة العميقة لمواضيع النصوص، تَمَيُّزها واختلافها بعضها عن البعض، الأسلوبيَّة والمواضيع المطروحة، قربها عن الواقع الليبي أو ابتعادها، ويعلّل الفيتوري ذلك الإسهاب في التحليل بأنها “محاولة لتبيين المشترك لأنّنا، كما أشرنا، نقدّم مختارات تدعي أنّها تلمّ بتجربة إبداعيَّة لجيل في زمكان نزعم أنّه محدّد ومتنوع في آن، وأنّ هذا الكتاب بانوراما للتجربة الإبداعيَّة الليبيَّة خلال العقد الثاني من الألفيَّة الثالثة، وأنّها أنثولوجية منفردة عربيَّاً، حسب علمنا، وبالتالي تفتقد المرجعيَّة والسند وتخوض هي – أيضاً – غمار أن تكون باكورة”.

عوالم الكتابات

تجتاح الكتابات المنشورة في الأنطولوجيا عالم الكتابة الاجتماعيَّة التي تسردُ اليومي البائس، يوم الحرب ليس كغيره من الأيَّام، وبالتالي فإنّ الكتابة تتأتَّى كحصيلةٍ لليأس والخذلان من الجانب النفسيّ للشخصيَّات، سواء في القصص أو في الفصل المنشور من رواية “كاشان” لأحمد البخاري المدوّنة باللغة العاميَّة الليبيَّة – لهجة طرابلس الغرب – لغة الكتابة المسرحيَّة والدراما الإذاعيَّة المسموعة والمرئيَّة وبشكلٍ رئيس الأغنية والشعر الشعبيّ كمحاولة لتجريب المختلف، اليوميّ الذي تجلبه الحرب، وربمّا السطر الأوّل من الرواية كفيلٌ بإحالتنا إلى عوالم الرواية: “شريط تسجيل يدور… صوت جهوري خشن يتكلّم: اعترف يا حيوان… قول كل اللي تعرفه”، اعترافات وسرد للحياة البائسة المتدهورة والقتل المجّانيّ وعوالم الحارات المجهولة.

النصوص الشعريَّة كذلك تضجّ بعوالم الحرب والفقد والحبِّ أيضاً كمحاولةٍ لإضفاء الجمال على القبح! من خلال أدواتِ اللغة والتعبير اللغوي اعتماداً على الفنتازيا والمخيَّلة الشعريَّة، وهذا ما سنذكره كنموذجٍ عابر مثله الكثير ضمن أجواء الأنطولوجيا، ما كتبه الشاعر أحمد الشارف: “أنتظر القهوة/ هدوء ما بعد الحرب قد حلّ/ إن كنتُ أغمضت عيني/ فما بالكِ تهبطين الآن؟!/ إن كنت فتحت عيني/ فما بالي أكبر الآن؟!/ فلتأتني النجوم غداً/ لأختار سماءها/ فلتأتني البحار غداً/ لأختار مِلحها!”.

كذلك خيباتُ الأمل في أجواء القصص الواردة تبدو واضحةً بأكملها آن القراءة المتعمِّقة، ومثلها ما كُتِبَ من قبل أمل النائلي، في نصّها النثريّ المعقّد والمتداخل اللغة “على أرضي حرب، وفي قلبي حبّ”، حيثُ التصدّي لفكرة الموت؛ تقول أمل: “أتذكّرُ ما كتبتُ منذ يومين على صفحتي، وفكرة مقاومة الحرب بالحبّ، فأتذكَّرُ الحبّ ويخالجني التيه في نفسي، هل تراني كنت ساذجة حين حلمت بالأمل، هل هؤلاء البشر الذين يدوّنون على صفحاتهم #تدوين_أمل، مجانين؟ هل كنّا حمقى حين فكّرنا أن ليبيا ستقف ذات انتفاضة؟!”.

كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” جهدٌ توثيقيّ سيبقى طويلاً محطّ دراسةٍ وتحليلٍ، فيه مجموعة من الأساليب الكتابيَّة الليبيَّة الشابَّة، شيءٌ ما يعطي البعد الشاسع لإمكانية اختلاف الكتابة حتّى وإن كانت المواضيع المطروحة هي ذاتها.  

نقلا عن “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى