قبل عام أصدر الرئيس هادي قراراً بتعيين الزبيدي محافظاً لعدن. مؤخراً قام بإقالته من المنصب. راح المحافظ المُقال يطلب تفويضاً جماهيرياً لـ “إدارة شؤون الجنوب”. هكذا، بهذه البساطة، وفي صورة من أكثر الصور كلاسيكية للانقلاب كما هو مُتعارف عليه.
قبل عام أصدر الرئيس هادي قراراً بتعيين
الزبيدي محافظاً لعدن. مؤخراً قام بإقالته من المنصب. راح المحافظ المُقال يطلب تفويضاً
جماهيرياً لـ “إدارة شؤون الجنوب”. هكذا، بهذه البساطة، وفي صورة من أكثر
الصور كلاسيكية للانقلاب كما هو مُتعارف عليه.
تردد الإمارات والسعودية أنهما تدخلتا في
اليمن لأجل استعادة الشرعية الدستورية، والحفاظ على بنية الدولة اليمنية من التصدع.
قبل أربعة أعوام أصدر هادي قرارات متتالية أدت إلى إقالة أبناء صالح من المراكز القيادية
العليا في الجيش. تمرد الأخيرون، وساهموا في صناعة المشهد الذي نراه. وقد خرج صالح
أكثر من مرة ليقول إن الحرب الأهلية التي يخوضها، ويصنعها، جاءت بتفويض شعبي له بتولي
شؤون البلاد. أكثر من مرة قام بتسيير مظاهرات كبيرة في صنعاء ليدلل على ذلك. قبل انطلاق
عاصفة الحزم كان صالح قد أخرج جماهير مشتتة في صنعاء ترفع صورة نجله أحمد وتمنحه، من
خلال لغة غير واضحة، تفويضاً لإدارة البلاد.
نحن أمام فاعلين محليين يرفضون حضور أي
شكل للدولة ويقدمون أنفسهم، من خلال الحشود الفوضوية الشعبوية، بديلاً لها. لا يوجد
فرق، سوى في الدرجة، بين التمرد الذي نفذه كبار الفاعليين في صنعاء وذلك الذي يقوده
الفاعلون الجدد في مدن الجنوب. فقد وُضع الرئيس هادي في إقامة جبرية في المحافظة البديلة،
عدن، بطريقة تختلف فنياً وحسب عن محبسه في العاصمة صنعاء.
لا يزال الشعب اليمني يعيش خارج المؤسسات
والتنظيمات والروابط على شكل “جماهير”، وبمقدور أشخاص ذوي قدر ما من الحضور
الشعبوي والاجتماعي اختطاف نصيبٍ من الجماهير والزج به في هذه الجهة أو تلك
من المثير أن دول التحالف العربي تغض الطرف
عن “الانقلاب الكبير” الذي يجري في عدن، بتلك الصورة التي رأيناها في الأيام
الأخيرة: حشود شعبوية بلا هوية واضحة تفوض جنرالاً معزولاً بإدارة شؤون البلاد، البلاد
التي يزعم التحالف العربي أنه قدم إليها ليدعم سلطتها السياسية المنتخبة، والمعترف
بها دولياً. يوجد في اليمن العديد من الجنرالات القادرين على تحريك الجماهير. وهم مستعدون،
على الدوام، لمصادمة السلطة المحلية من خلال الجماهير.
لا يزال الشعب اليمني يعيش خارج المؤسسات
والتنظيمات والروابط على شكل “جماهير”، وبمقدور أشخاص ذوي قدر ما من الحضور
الشعبوي والاجتماعي اختطاف نصيبٍ من الجماهير والزج به في هذه الجهة أو تلك. الحشد
الثالث، خلف الزعيم الثالث، في طور التشكل. هذه المرة حشد كبير على البحر، وبمقدوره
إحداث قدر من الضرر يصعب تخيل عواقبه. في البدء حشد الحوثي كتلاً بشرية في شارع المطار،
بصنعاء، وتحدث كقائد لها، ثم أطلق عليها اسم “الشعب اليمني”، ومنحته هي منزلة
القائد، ثم التفويض. مع الأشهر الأولى للحرب حشد صالح كتلاً بشرية، أيضاً بلا ملامح،
وخاطبها في شارع السبعين، صنعاء، قائلاً إنها الشعب اليمني وأنه قائدها والمعبر التاريخي
عن مصالحها ودولتها.
انتقلت الصورة، كما هي تماماً، إلى عدن
وها هو الجنرال الزبيدي يلقي خطاباً في كتل جماهيرية ضخمة، ويعدها أنه لن يراعي مصالحها
وحسب، بل سيكون قائدها الوحيد، ثم يختزل فكرة الشعب في الجنوب في الذين منحوه تفويضاً.
بعد ساعات ستقوم مجموعات مسلحة مجهولة بإحراق مؤسسات مدنية تتبع أولئك الذين قال القائد
إنهم ليسو من الشعب.
يهبط الخطاب الشمولي من الأعلى، ثم يصبح
روحاً عاملة في القاع الاجتماعي، روحاً تنفيذية بلا ملامح ولا شخصية مستقلة. وسيتجلى
في نزوعات عنيفة، انتقامية واستبعادية. إنها تفاهة الشر، كنتيجة للتعبئة الشمولية،
تعرف طريقها إلى جهات وأناس بعينهم فتسحقهم، ليس لأنهم أعداء وإنما لأن النظرية أو
الخطاب سيكونان في وضع أفضل بعد هزيمتهم. الدراسات التي أنجزتها حنا أرندت، في ستينات
القرن الماضي، عن حالة “آيشمان”، الجنرال النازي المسؤول عن محارق اليهود،
توصلت إلى الاستنتاج نفسه. فلم يبد آيشمان ندماً وهو يقف أمام المحكمة، كما لم يقل
إن اليهود كانوا أعداءه الشخصيين. كانوا، وحسب، أعداء في تقدير النظرية والخطاب. كان
سلوك آيشمان، في التقدير الأخير، محايداً، فلم يقتل من دوافع إجرامية ولا عدوانية.
كان يقدم على أفعاله لأن خطابا شعبوياً يريد ذلك.
كان بيان حضرموت سياسياً، ابتُكِر باحتراف
ومسؤولية تاريخية، وتحدث علمياً عن حاجة المحافظة الأكبر للسياسة والأمن والاستثمار،
ووضع المحافظة داخل الدولة
مؤخراً استطاعت حضرموت، كعادتها، أن تنجو
من هذه الفوضى، وتخرج بمؤتمر عام ساهم فيه ثلاثة آلاف شخصية معروفة الملامح وتعبر عن
حضور ما، سياسي أو ثقافي أو اجتماعي. تلك صورة تختلف عن اللقطة التي خرجت من عدن، حيث
شُوهِدت كتلاً بلا ملامح، ويصعب قياسها، أو حتى أخذ المعنى الذي تشير إليه على محمل
الجد. وفي نهاية المطاف تركت الجموع ميدان الحشد وقد أعطت تفويضاً لشخص وحيد
وهو ما سيعني أن الجماهير قد أذنت لشخص
ذي تطلعات سلطوية أن يستخدمها في معاركه بالطريقة التي يراها مناسبة. وفي نهاية المطاف
فالتفويض يعني أننا أمام جماهير تقول لجنرال عسكري إنه مستعدة لدفع أثمان باهظة في
معركة غير محددة الملامح. المعارك التي على شاكلة ما يفكر الزبيدي بخوضه تنتهي بالمرء
زعيماً مافوياً، يقود شعباً مقموعاً، أو به مهزوماً وبشعب مفكك وضال ومثير للأسى.
كان بيان حضرموت سياسياً، ابتُكِر باحتراف
ومسؤولية تاريخية، وتحدث علمياً عن حاجة المحافظة الأكبر للسياسة والأمن والاستثمار،
ووضع المحافظة داخل الدولة. سبق مؤتمر حضرموت بيان لعدد من كبار رجال المال في السعودية،
من أصل حضرمي، قالوا فيه إنهم فيما يخص وضع محافظتهم ملتزمون برؤية السعودية ومقاييسها.
بصورة عامة لا ترى السعودية وضعاً آمناً
لحدودها الجنوبية سوى في يمن واحد ومستقر، ولكن رؤيتها تلك لا تزال، منذ زمن، أبعد
ما تكون عن التحقق. اختارت حضرموت طريق الفيدرالية، وأخبِرنا عبر “بيان عدن التاريخي”
أن عدن اختارت طريق الميليشيات. فما من معنى يمكن استخلاصه من حشود جماهيرية تفوض جنرالاً
عسكرياً لإدارة شؤونها، متجاهلة الحكومة والرئاسة والجيش الوطني، سوى معنى واحد: ميليشيا
جديدة. وكالعادة، فكل قائد ميليشيا يجد له سنداً جماهيرياً، كما تنحصر لغته دائماً
في الحديث عن مصلحة شعبه وعن الأعداء. لا مكان للحديث عن الديموقراطية، عن المؤسسات،
ولا حتى عن الأصدقاء.
حالياً يغرق اليمن، لا يزال يغرق، في زمن
الحشود المتصادمة، والحروب الصغيرة. ليس ثمة من صيغة عبقرية بمقدورها اقتراح حل شامل،
ولا حتى أقل من شامل
الفاشويات غير قادرة على اكتشاف التنوع
داخل المجتمع، لذا تقوم بسحق كل شيء وتسويته. ثمة انقلاب في عدن بالطريقة نفسها التي
شاهدناها في صنعاء. غير أنه من الواضح أن انقلاب عدن استفاد من تجربة صنعاء، فقد ذكر
إيران بسوء، كما في نص البيان رقم واحد، أو: بيان عدن التاريخي.
قبل ثلاثة أعوام خطب الزبيدي، الزبيدي نفسه،
في حشود غاضبة في عدن وقال أمام الكاميرات إنه ورفاقه ملتزمون باتفاقاتهم مع الحوثي
ووعودهم التي قطعوها لإيران. أثبتت الأيام أن الزبيدي كان محدود الخيال، وأنه ربما
كان رجلاً مناسباً لقيادة مجموعات مسلحة في حروب دفاعية لا لتصميم صورة عن الشكل الذي
ينبغي أن يؤول إليه البلد. تلك مسألة لا تحسمها الجسارة القتالية، بل الحكمة والخيال
والحدس الديموقراطي المتسامح.
حالياً يغرق اليمن، لا يزال يغرق، في زمن
الحشود المتصادمة، والحروب الصغيرة. ليس ثمة من صيغة عبقرية بمقدورها اقتراح حل شامل،
ولا حتى أقل من شامل. وفيما يبدو فإن الجميع يراهن على لحظة الإرهاق الكبيرة، اللحظة
التي سيقول فيها الجميع بصوت واحد: لقد سئمنا كل هذا.