فكر وثقافة

المعرّي إمام الحائرين: مراوغات النص وتأويلات القراءة

د.حاتم الصكر

القراءات العربية المعاصرة للنصوص في أغلبها تتجه نحو المحتوى أو الغرض، أو تفهرس القراءات العربية المعاصرة للنصوص في أغلبها تتجه نحو المحتوى أو الغرض، أو تفهرس
الشعراء بحسب ما في ذخيرة القارئ عنهم، ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً هو الموقف من شعر المعري. هنا نحاول استرجاع بعض تلك المقاربات وموقف المدرسة العربية حيال المسكوت عنه أو بنى النص العميقة في شعر المعري.
إمامي وإمام الحائرين. هكذا كان الشاعر المصري الراحل نجيب سرور يسمّي أبا العلاء المعري مختصرا منهجه وطريقته التي يراه فيها إماما يتقدم طارحي الأسئلة والحائرين في لجة اليقين العام والراحة والاسترخاء في ظل النصوص المتجمدة التي لا تمنح حق المراجعة وتعدد القراءات.
لم يكن المعري كما قال عن نفسه: رهين المحبسين، عماه وبيته الذي اعتزل فيه.. فقد ركن لاحقاً إلى عملية تأمل طويلة أفضت إلى اعتقاده بأن سجونه ثلاثة:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لفقدي ناظري، ولوزم بيتي، وكون النفس في الجسم الخبيثِ
وزاد طه حسين على السجون الثلاثة رابعاً لخَّصه بفكرة المعري عن الحياة والناس التي صار سجينها؛ ليضاعف ظلام أيامه ولياليه بقلق خلاق، أبعده عن الحياة بمعناها الميكانيكي أو بعاديتها اليومية.
وإذا كان المعري قد استراح لعزلته تلك وسجونه المتعددة، فإن نصوصه ظلت تشاغب وتشاكس على مدى تارخ الشعرية العربية. وجرت قراءتها بمناظير متنوعة تراوح بين الحماسة والرفض. ثم جرى تهميشها أو تجميدها. وفي أفضل الأحوال تم تنقيحها باختيار ما يناسب اللحظة الاجتماعية القائمة واليقين الجماهيري العام.
لكن نصوص المعري تفسر عند معاودة قراءتها سبب تهميشها في الذاكرة التراثية الشعرية والسردية أيضا.
هذه إشارة لعمله المميز والخارق للمألوف: رسالة الغفران. وتصريح بموقف الدراسات الأكاديمية العربية والمدارس من شعره وأفكاره. لقد مثّل المعري واحداً من أكثر التابوات في المدرسة العربية بشتى مراحلها. وإذا استثنينا دراسة بنت الشاطئ المبكرة عنه، وما كتبه طه حسين – وفي تقاطع واضح مع المعري – لا نجد ما يلفت أو يطلب التوقف خلال مرحلة تدوين التاريخ الأدبي نقدياً او مدرسياً.
تؤكد ذلك مراجعتنا السريعة لدلالات نموذجين أو قراءتين للمعري، الأولى أنجزها طه حسين في ثلاثة كتب هي (صوت أبي العلاء) و(مع أبي العلاء في سجنه) و(تجديد ذكرى أبي العلاء). والثانية أنجزها أدونيس في مقدمته للكتاب الثاني من (ديوان الشعر العربي).
يصر طه حسين على استخدام كنية المعري (أبي العلاء) للحديث عنه. بينما تقدم لنا نصوص المعري انزعاجاً من تلك الكنية. فقد قال:
دُعيت أبا العلاء وذاك مَينٌ ولكنَّ الصحيحَ أبو النزولِ
ويرى طه حسين أن المعري فيلسوف وأن شعره فلسفي. ولا يمكن قبول ذلك الوصف إلا بالمعنى المتوسع عن التأمل، فالفلسفة طاردة للشاعرية بمعنى المجاز والخيال.
ولكنه كان منصفاً حين وصف عزلته ومحابسه بالعزلة الفلسفية. فيظل للمعري وصف المتأمل العميق داخلها.
التعويص والصنعة والتسلية
التعويص المقصود في اللزوميات كان مبرراً للقراءات التكفيرية والخائفة والمدرسية، كي يظل المعري بعيداً من المركز الذي احتلته قصائده في الشعرية العربية، وما مثلته أفكاره في المسيرة العقلية للفكر العربي، وجدل المقدس والدنيوي الذي يناله التهميش والإقصاء غالباً.
ماذا كان المعري يفعل وهو يمارس ما تصوره الدارسون لعباً وتعويصاً؟
نموذجنا هنا قراءة طه حسين الذي لا يحب المعري ونصوصه وأفكاره كما صرَّح في فاتحة أول كتبه الثلاثة عنه. ولذلك دوافع عديدة لا مجال لمناقشتها أو عرضها في سياق هذه المقاربة. لكن ما استوقفني في موقف طه حسين من المعري تأويله – لا تفسيره فحسب – للزوميات بأنها محاولة من المعري للتسلية؛ لكونه يعيش رهين محبسه في البيت بلا زوجة أو ذرية أو أصحاب فيلجأ للعب بالألفاظ، في وقت كان المبصرون فيه يلعبون ألعاباً للتسلية، لا يمكنه بكونه أعمى أن يمارسها. فانصرف مستخدماً عدته اللغوية، وما تثقف به من قاموس لفظي للتكلف والتصنع واللعب بالتقفية، ملتزما بعدة أحرف للقافية مما لا يلزم في النظم الشعري المعتاد، فكتب اللزوميات بقوافٍ مضاعَفة متسلسلاً بحسب حروف المعجم والترتيب الألفبائي للألفاظ.
ولم يكتف بذلك بل زاد عليه باللعب الجناسي وعودة الأعجاز على الصدور كما يُعرف في فن العروض والقوافي. فراح يقلّب الألفاظ التي يستخدمها في البدء، كقوله:
خَوى دنُّ شربٍ فاستجابوا إلى التقى فَعيسُهمو نحوَ الطوافِ خَوادي
وقوله:
أجْرَأنا الجَهلُ على إثمِنا وهو على الإحسان أجرانا
أقرأنا منها السلامَ الكرى وكم أبادَ الحتفُ أقرانا
وحتى حين يستخدم ثقافته الفلكية أو معلوماته اللغوية وما عرفه من أخبار الشعراء لا يترك طريقته تلك، كقوله منفّراً من الزواج وذامّاً كتاب العرس أو عقده:
وإنّ كتابَ المهر فيما التمستُه نظيرُ كتاب الشاعر المتلمس
مستفيداً مما تنقله الأخبار عن الشاعر المتلمس وحمله لرسالة ملك الحيرة التي تضمنت أمراً لعامله في البحرين بقتله.
لا يمكن لنا إذاً إنجاز أية قراءة للمعري دون تأويل يستند إلى حالته النفسية وعنائه من العمى، وإلى تقاطعه مع المجتمع ما أدى إلى عزلته وسجْن نفسه في بيته، وتجنُّب الوظائف أو الاتصال بالأمراء والحكام.
الطريقة والمنهج والفكرة
قراءة أدونيس للمعري شاعِراً توجب المساءلة. في الكتاب الثاني من (ديوان الشعر العربي) لا يحظى المعري في قياس النصوص المختارة بما يوازي شعراء صغاراً وعابرين في الشعرية العربية في زمنه أو بعده. يرى أدونيس أن المعري ليس شاعراً فيلسوفاً بل شاعر ميتافيزيقي لأنه لا يتوفر على (طريقة) في شعره. ونحن نتفق مع أدونيس في نفي الفلسفة عن شعر المعري وصفة الفيلسوف عن شخصه بالضرورة، خلافاً لما قيل بأنه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. وذلك حكم نقدي متسرع كتب له الانتشار، وردده طه حسين كما رأينا. ولكننا نختلف مع أدونيس في نفيه وجود (طريقة) أو (منهج) للمعري.
إن ذلك الإبعاد للطريقة والمنهج تعيد شعر المعري رغم افتتان أدونيس بجرأته إلى الشعر الخالي من أية خطط ومشروعات، وتنم عن تسرع في قراءة نصوص المعري، والاكتفاء بمحمولها الفكري، فهي عند أدونيس دليل على ميتافيزيقية لا نفهم كيف توفرت في شعر المعري دون منهج أو طريقة. وكيف تنبه أدونيس للرفض الذي يتحمس له في شعر المعري، ويغفل طريقته في تجسيد ذلك الرفض فنياً، وهو ما خلق برأينا منهجاً للمعري يدل عليهما شعره ونثره معاً.
وبالعودة إلى اللزوميات، نرى أن الشاعر كان يشاكس عصره وذائقته النظمية بمضاعفة أغلال القصيدة لإبعاد مضمونها عن القراءات المتعجلة. وما تلك القوافي التي يلتزم بها وهي لا تلزم سواه عند النظم إلا مظهرا من مظاهر التمرد، لا للهو والتسلية ولكن لإجهاد قارئه بالفكر والمعنى الدفين وراء أغلفة النظم المضاعفة والمتعبة قاموسياً.
أخيراً نتساءل: كيف تحول المعري في قراءة أدونيس من شاعر يمثل (برجاً يرتفع وحيداً في حضارة البشر وفي الجهات كلها يُرى ويتلألأ)، كما وصفه في إحدى مقابلاته، إلى شاعر بلا طريقة؟
زجر النابح
ألَّف المعري رسالته (زجر النابح) بعد وقائع كلبية عديدة يجدر بنا المرور بها سريعاً، ومنها ما يرافق عادةً لعنَه وسبَّه، ووصْفه بالكلب لما فيه من نجاسة يعتقدها المتدينون. فيصبح الوصف بالكلب من أشد الشتائم الممكنة في الخطاب العدائي. هكذا وُصف المعري في مجلس الشريف المرتضى ببغداد حين جرى ذم المتنبي، ورد عليهم المعري بتعريض ضمني مستعار من قول المتنبي (وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ……..) وكذلك هجاه شاعر بالقول:
كلبٌ عوى بمعرة النعمانِ لمّا خلا من ربقة الإيمانِ
فكتب رسالته تلك زجراً لذلك الشخص وسواه – ممن شهّروا بفكره، وعدّوه كافراً – دون تسميتهم. لكن التحدي الأكبر هو ما قاله رداً على من شتمه بالقول (الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً)، فأصاب خصومه وجعلهم يعيشون حالة من الكلبية، كما يرى عبدالفتاح كيليطو في دراسة مميزة، فهرعوا إلى قواميسهم للبراءة من التهمة بالعثور على الأسماء السبعين. وهكذا نظم جلال الدين السيوطي أرجوزته (التبري من معرة المعري)، وذكر فيها الحادثة، وتوصل إلى ستين اسماً أغلبها صفات أنزلت منزلة الاسم. لكن سيل العداء للمعري لم يتوقف. وأنتجت القراءات تأويلات كثيرة جمعت في كتاب أشرف طه حسين على جمعه بعنوان (تعريف القدماء بأبي العلاء).
ليل مشمس بالعقل
لقد فات الدارسين بسبب الموقف المسبق من المعري كثير من منجزه، وهو ما يمكن للدراسات المنهجية الحديثة أن تنوه به لما فيها من إجراءات، كدلالات العنونة عنده. فهو من أوائل الشعراء العرب الذين أطلقوا على دواوينهم أسماء عنونوها بها، فكان (سِقْط الزند) مثلا، وهو ديوانه الذي ضم أشعاره الأولى يلمح إلى ما كان عليه من حيوية وتطلع في بدايات تجربته الشعرية. فالسقط هو ما يتطاير من الزند، أي الآلة التي تتخذ مشعلاً للنار، فكأن تلك هي حال تجاربه الأولى.
أما (رسالة الغفران) فهي جديرة بالتحليل على وفق أهمية العتبات النصية في توجيه القراءة، لأنها وإن كُتبت رداً على سؤال ابن القارح عن الزندقة التي يتهم بها الكتاب والأدباء، لكنها جاءت بطريقة سردية كان فيها ابن القارح شخصية يصعب تصنيفها سردياً، فهو مشارك في الحدث ومروي له من طرف المعري عما رآه في منامه، ورحلتهما إلى الآخرة، وما شهدا من مرائيَ ومشاهد يصورها المعري ويصطنع لقاءات بشخصيات يحفظ لها أشعاراً أو أخباراً، ويلتمس الغفران لهم، مذكراً بالمجاز الذي تدور تحت سقفه الذي تستظل به ألفاظهم وصورهم. كما اعترف في أحد أبياته بالقول (تكلّميَ المجازُ).
لم تكن جناية الخصوم إذن هي التي خلقت قلق المعري وحيرته بل تلك التي وصفها بقوله:
هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد
لقد كانت تلك خلاصة حياته، وعلى ضوء هذا يمكن تأويل نصوصه التي تكتظ برضاه بعزلته. لقد أوقف جناية أبيه بعدم تكرارها:
تواصلَ حبلُ النسل ما بين آدمٍ وبيني ولم يوصَل بلامي باءُ
تثاءبَ عمرو إذ تثاءب خالدٌ بعدوى فما أعدتني الثؤباءُ
ختاماً: ألا يحتاج قول المعري التالي كمثال إلى تأويل معمق يتصل بإمامة العقل التي دعا إليها، وبالتعويض به عن الظلمة التي غلفت حياته، فغدا العقل شمساً ينير ذلك الليل الطويل؟:
وإنَّكَ إنْ تَسْتَعْمِلِ العَقْلَ لا يَزَلْ مَبِيْتُكَ فِيْ ليلٍ بعَقْلِكَ مُشْمِسِ
نقلا عن “منبر ثقافي عربي” “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى