القصة القصيرة تفقد بريقها بعد أن هجرها كتّابها
ارتدّت القصة القصيرة في العالم العربي مؤخرا إلى مراتب دونية مقارنة بالرواية التي باتت تعيش ذروتها، سواء كان ذلك على مستوى التتويجات بالجوائز الأدبية أو على مستوى ما تشهده من إقبال جماهيري غير مسبوق، “العرب” تحاورت مع أصحاب مجاميع قصصية اتجهوا إلى الرواية، ولكنهم ظلوا أوفياء للقصة القصيرة، فكان من بينهم من وجه العتاب إلى أصحاب دور النشر وشروطهم الصعبة لنشر مجموعة قصصية. يمن مونيتور / العرب اللندنية
ارتدّت القصة القصيرة في العالم العربي مؤخرا إلى مراتب دونية مقارنة بالرواية التي باتت تعيش ذروتها، سواء كان ذلك على مستوى التتويجات بالجوائز الأدبية أو على مستوى ما تشهده من إقبال جماهيري غير مسبوق، “العرب” تحاورت مع أصحاب مجاميع قصصية اتجهوا إلى الرواية، ولكنهم ظلوا أوفياء للقصة القصيرة، فكان من بينهم من وجه العتاب إلى أصحاب دور النشر وشروطهم الصعبة لنشر مجموعة قصصية.
ترى الروائية المصرية منصورة عزالدين أن القصة القصيرة مزدهرة في مصر على مستوى الكيف والتجريب واقتراح فضاءات جمالية جديدة، لكنها لا تحظى بالاهتمام اللائق إعلاميا ونقديا، ما يؤثر على تلقيها ويحد منه.
والناشرون يشتكون من أن المجموعات القصصية لا تحقق مبيعات عالية مقارنة بالروايات، وبالتالي يحجم معظمهم عن نشرها، وتضيف “عملي الأول كان مجموعة قصصية عنوانها ‘ضوء مهتز’، ولي مجموعة أخرى بعنوان ‘نحو الجنون’، ولم أتوقف قط عن كتابة القصة، قد تطول المدة بين كتابة قصة والتي تليها وبالتالي يتأخر صدور مجموعة كاملة، لكن جماليات القصة وحساسيتها في الكتابة في بالي دائما حتى وأنا أكتب الروايات”.
عتب ونقد
يتأسف الناقد والقاص السوداني عزالدين ميرغني على حال القصة القصيرة، إذ أصبحت من وجهة نظره لا تجلب الشهرة كثيرا كما يحدث ذلك في الرواية، وقد ثبت ذلك في دنيا المسابقات الأدبية الكبرى، مثل البوكر وكتارا، وحتى نوبل تركز على كتّاب الرواية أكثر من غيرهم، ومن هنا تركزت جهود الكتّاب على فن الرواية الأكثر إيصالا إلى الشهرة.
ويضيف ضيفنا “حتى الجيل الجديد من الشباب تركز جهده على كتابة الرواية أكثر من القصة القصيرة، وهذا قد أثر على القارئ الذي أخذ يركز على الإقبال على قراءة الرواية أكثر من قراءة القصص القصيرة، ومن هنا قد هجر الكتّاب هذا النوع السردي وهو فن صعب يحتاج إلى فن التركيز وقوة الملاحظة واللغة المتميزة الخاصة”.
وتابع “رغم أن الرواية تحتاج إلى العمق السردي وتعدد الشخصيات، فإنها يمكن أن تتمدد وتترهل عكس القصة القصيرة التي لا تقبل ذلك، ومن الملاحظ أن كاتب الرواية وخاصة في العالم العربي، والذي يجيد كتابة القصة القصيرة، سرعان ما يحول القصة القصيرة إلى رواية كسبا للشهرة، وحتى دور النشر أصبحت لا ترحب كثيرا بنشر المجموعات القصصية التي قد لا تسوّق سريعا”.
ويوجه القاص الليبي شكري الميدي أجي اللوم إلى المؤسسات الثقافية، معتبرا إياها هي التي هجرت القصة ودفعت الكتاب إلى هجرها، لعدة أسباب، منها أن القصة القصيرة تعتبر مشروعا مؤقتا، لا بد من التفرغ التام لأجل إتمامه دفعة واحدة، والبحث عن مشروع جديد.
ويقول موضحا “إنها بمثابة كتابة رواية جديدة، كل مرة دون إتمامها، والخوض في رواية جديدة عملية منهكة جدا، وإن نجح الكاتب في إتمامها سيواجه صعوبة نشرها، فأغلب الدوريات والمجلات والصحف صارت تريد قصصا بعدد كلمات معينة، بحيث لم يعد الكاتب واثقا من إيجاده لصحيفة تقبل كلمات قصته، فبعض الصحف تريد 250 كلمة بالتحديد، وهو أمر مضحك بالنسبة إلى مؤلف يكتب من 2500 إلى ستة آلاف كلمة لإنشاء قصة قصيرة، كما أن هناك مسابقات أدبية تشترط قصة من 500 كلمة”.
وترفض القاصة الفلسطينية صابرين فرعون مسألة هجر الكتّاب للقصة القصيرة، معتبرة أن نجمها خفت بالنسبة إلى الأجناس الأدبية الأخرى، بشكل مؤقت، لا غير. وتضيف “اعتمد العرب قديما الحبكة الحكائية حتى في التوصيف وفي رسائلهم وبث أخبار المعارك والفتوحات، وحكوا عن مغامراتهم في أشعارهم كما فعل المتنبي، كما ظهرت معالم القصة واضحة وجلية في كتب ‘ألف ليلة وليلة’، ‘كليلة ودمنة’ و’البخلاء’ وغيرها من بطون الكتب، وأيضا في الحكايات والموروث الشعبي، ورغم ذلك يرى البعض من النقاد والباحثين أن موطن القصة القصيرة هو الغرب، وقد هاجرت إلى العرب بفضل حركة الترجمة والبعثات العلمية، وأرى أن الحضارة سواء العربية أو الغربية لم تكن إلا بفضل القصة التي بدأت شفوية، ثم تم تدوينها لتصلنا خليطا من التوابل والبهارات التي ظهرت بحلتها النهائية من خلال التأثر والتأثير في التواصل بين الشعوب”.
وترى ضيفتنا أن تراجع الاهتمام بفن القصة القصيرة المعاصرة يعود إلى أسباب أهمها أن البعض من النقاد دعوا إلى الحفاظ على القالب التقليدي للقصة بسبب ما آلت إليه من تفرعات نتجت عنها القصة القصيرة جدا والقصة الومضة، مع تأكيدهم على أن المشهدية تحتاج سردا يتخطى التكثيف في سطور خاطفة وسريعة رغم عمقها، وانصراف وتغييب النقد الحديث للمجموعات القصصية مقارنة مع سنوات سابقة.
كما اختلفت الأيديولوجيات وتنوعت، فصار الكاتب والقارئ يبحثان عن الاستفاضة والاستطالة في الحكي، ويسعيان إلى تأليف الرواية، على حساب الأجناس الأدبية الأخرى، رغم أن هناك تقاطعا بين الرواية والشعر والنصوص المعاصرة والقصة القصيرة في حيثية السرد والتكثيف والاستشراف وتعالق الواقع بالخيال.
هذا التهافت أدى إلى تنظيم وإعلان مسابقات ذات حوافز مادية ومعنوية للرواية وإهمال القصة إعلاميا، والبحث عما يضيف رصيدا وشُهرة.
منصورة عزالدين ومحمود العزازمة وصابرين فرعون وعزالدين ميرغني: القصة القصيرة لم تعد تجلب الشهرة
القصة مدخل للرواية
تلوم القاصة صابرين فرعون بعض دور النشر التي شجعت الرواية وطباعتها ورقيا دون مقابل، مما أدى إلى تراجع سوق المجموعات القصصية وعدم انتشارها أو توافرها في السوق المحلية والعالمية، وهناك دور نشر اهتمت بالمادة القصصية، مع انحيازها إلى الأسماء اللامعة في عالم القصة، واهتمت بترجمتها إلى لغات أخرى غير العربية، مما شكل فجوة تسويقية للقصة.
ويملك القاصون، خاصة الشباب، الوعي والإلمام بتطوير فن القصة، لأنها تفتح بابا للإطلاع على المعيش وتمزقات الواقع، وهذا التراجع في الاهتمام بالقصة القصيرة وتفرعاتها مؤقت.
ويرى أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة حائل بالمملكة العربية السعودية الأردني محمود العزازمة أن الهوية العربية ومنذ فجر التاريخ تتميز بكونها هوية تسعى إلى النقاء قدر الإمكان، هذا النقاء والوضوح والجلاء أهم ما يمكن أن يدعمه المحافظة على وجهة النظر الواحدة، وجمع الناس حولها، بل الزعم أنها وجهة النظر المثلى الملائمة دائما وأبدا، ولم يبتعد السلوك الحكائي عن هذا كثيرا، فانبثق من هذا المشهد الذي يحافظ في جوهره على موضوع واحد ونبرة واحدة إطار من الإيجاز والتكثيف.
والتوصيف الموجز هذا يمكن أن تتم مقاربته بجوهر القصة القصيرة عند العرب، حيث كانت البدايات مع قصص الأمثال والحكايات الرمزية والخرافية ثم كتب الأخبار والمقامات، وهي في مجملها تقترب من هذا النمط وتتداخل معه.
وتابع العزازمة قائلا “في النشأة الحديثة للقصة العربية، يمكن أن نشير إلى أنها ارتبطت بمحمود تيمور بدءا من عام 1925، حيث هيمن عليه الأثر الفرنسي ممثلا برائد القصة الفرنسية موباسان.
وقد أطلق محمود تيمور في لحظة يمكن اعتبارها لحظة تاريخية في مسيرة القصة القصيرة اسم موباسان المصري على نفسه، وهذا بمثابة إعلان أن القصة العربية انحرفت نحو مناطق جديدة ومجهولة وغير واضحة المعالم”.
ويقر محمود العزازمة بأن القصة العربية منذ تلك اللحظة التاريخية لم تعد خالصة العروبة في خطابها ومضامينها وسياقاتها المتعددة، ليبدو المجال مهيأ للتخلي عنها بوصفها فنا لم يسهم المبدع العربي في إرساء معالمه الأولى، ولم يشارك في إنتاجه، لذا استخدم معظم المبدعين العرب القصة القصيرة بوصفها تمرينات أولية وإرهاصات لكتابة أنواع سردية أكثر قربا وانسجاما مع العقلية الإبداعية العربية