تورد وجه أسامة وجثم الغيظ على صدره فراح يصعد ويهبط وتبرز ترقوته إحساسًا بالخديعة. وبعد أيام ألفى نفسه مراسلًا بين مرتادي المنظمة والبقَّالة، كانت أحلامه تذوي مع كل مشوار يقطعه لجلب سجائر المارلبورو للرئيس أو علب الصودا للضيوف.
لم تحدث الأشياء المعتادة في أول خميس من يناير البارد. كان أسامة ممتدًا تحت شجرة السيسبان على ناصية الشارع المتاخم للجامعة. إلى جواره ينام سبعة من الباعة المتجولين القادمين من ضواحي العاصمة. تحين أسامة احتجاب القمر خلف السحب المتكاثفة، التي تشبه أدخنة الانفجارات، وأخفى ما جناه طيلة النهار تحت الأعشاب اليابسة. أبقى القليل في جيبه كحيلة احترازية لإشباع مطامع أنور كيكو، الشاب الذي يهاجمهم كل ليلة لأخذ نسبة من أموالهم الضئيلة قسرًا.
غاب أنور كيكو، وشعر أسامة بنوع من الحرية المتلفعة بالحيطة، وفي صباح السبت، طفق يتتبع بنظراته الفاحصة طالبة، تحمل الروب الأبيض، تنهد:
«الخيال إسبرين القلب» قال بصوت خفيض متأثرًا بحبه لمادة الكيمياء وحلمه بدخول كلية الطب، وتخيل حبيبته المفترضة، تتوصل إلى حقيقة علمية مما قاله.
«تصلح فيلسوف» رد بائع الجرائد هازئًا وقفز إلى مقدمة الشارع، فيما ظل أسامة في مكانه يواري خجل المزاحمة خلف نصيحة أمه: «رزقك مكتوب».
في الظهيرة اللاغبة، اختلطت أبواق السيارات بشتائم السائقين المقذعة. وقفت سيارة سوداء في آخر الطابور المزدحم، تمكن أسامة من التقاط اسم السيارة: برادو. أومأت له امرأة أجنبية بالقدوم، كان شعرها الأصفر معقوص للخلف، وشعره المتجعد مشعثًا، أحمر خفيف على شفاهها، وشفتاه متشققتان، وكان صدرها وثيرًا بنهدين بارزين وصدره الناحل مجلو بفانيلة عسكرية تحت زيه المدرسي الكاكي. طلبت منه المرأة بلهجة مكسرة علبة فاين. كانت ماريا، مسؤولة مشاريع منظمات الشرق الأوسط في الأمم المتحدة، وجهها أملس ورقبتها تتخللها تجاعيد المكواة. كان العلم الوطني يتهرأ على جيب أسامة المتورم ويوشك على السقوط، ربما كان هذا سببًا لتسأله ماريا: هل تدرس؟
كان عمره خمس سنوات عندما دلف المدرسة. كان أريبًا لمّاحًا يشهد له أساتذته. لكن الظروف أجبرته على مغادرة الصف الأخير.
«كنت». أجاب. واستغل أجنبيتها ليستشهد باسم أجنبي «أعرف قاعدة كتشكوسكي لتوزيع العناصر. وأمي مرضت بهذا الشتاء». مد لها علبة الفاين. تمعر وجهها. كان السائق عبيد حامد رئيس منظمة “عطف”، وفي الخانة الوسطى يجلس موسى سليم إلى جوار إضبارة من المنشورات المصقولة، تظهر صورته وهو يقود فتى يحمل الحقيبة المدرسية، هو نفسه الموجود في اللوحة الاعلانية الكبيرة التي تنبه أسامة بمدرسته كل صباح.
أسامة، واتته الشجاعة ليقبل بعرض ماريا. كان مغتبطًا وهو لصيق بها في مقعد السيارة، قاوم نزوة الإثارة، للمراهق الريفي، بتأمل الجدران المثقوبة برصاص الجيش المنقسم. أخذوه إلى سيتي كلوز وانتقى له موسى مجموعة من الألبسة الأنيقة والمطقمة. كانت ملامح عبيد حامد تتقلص حين يرمق أسامة، ويبش في وجه ماريا التي أرغمت منظمته على كفالة أسامة وأسرته.
«ابتسامة النفاق ضرورة لكسب الأجانب» دمدم موسى.
سافر أسامة بعد ذلك إلى أمه، وهو يحمل أكياس الموز المنقط، وصارحته أمه بأنها غير مطمئنة لما سيقوم به: «الأرصفة ملأى بالمكدودين.. لماذا أنت يا ولدي؟».. حاولت إثنائه عن العودة: «أسامتي.. لتدرس هنا؛ سأصنع الملوج وأبيعه في أبواب المطاعم».
«أمي.. لم يعد الناس يأكلون في المطاعم مثل ما كانوا».
استجاب لخياله، وعاد صوب العاصمة.
في اليوم التالي ذهب مع ماريا وعبيد حامد إلى المدرسة النموذجية الخاصة بالموهوبين. كانت روحه ترقص وهو يرى الآلات الموسيقية في معمل المدرسة، شاهد الطالبات في حصة الموسيقى وانذهل. التقط له موسى صورًا تذكارية بوضعيات لاجتلاب المزيد من الداعمين.
مسحت ماريا على رأس أسامة، وطبعت على خده قبلة إنسانية لا تمحى. ثم طلبت من منظمة عطف تقريرًا كل ثلاثة أشهر. وبعد ثلاثة أيام غادرت ماريا، فيما قامت إدارة المدرسة النموذجية بطرد أسامة لعدم وجود ختم التربية والتعليم على سجله. اتجه أسامة مرتان إلى عبيد وأخبره ليتواصل مع مكتب التربية والتعليم، في المرة الثالثة اشتاط عبيد غاضبًا:
«اكفنا أذيتك يا بن العاهرة.. هل تظن نفسك صالحًا لولوج السوربون؟».
تورد وجه أسامة وجثم الغيظ على صدره فراح يصعد ويهبط وتبرز ترقوته إحساسًا بالخديعة. وبعد أيام ألفى نفسه مراسلًا بين مرتادي المنظمة والبقَّالة، كانت أحلامه تذوي مع كل مشوار يقطعه لجلب سجائر المارلبورو للرئيس أو علب الصودا للضيوف.
تماهى مع موسى، وخاله طيبًا. لقد كان موسى يجلب له ما تبقى من مائدة رئيس المنظمة في المطعم الفاخر وكان الطعام خال من الملوج؛ كان أفضل من أكل البيت البائس. كما أنه كان يعلمه الحذق ويسدي له النصائح عندما يكونان لوحديهما، إلى أن قال له موسى: «أنا من الذين يتبنون مواقف اصحابهم ويهزون رؤوسهم تحت ضغط الاحراج». وإثر ذلك ظل أسامة مرتابًا تتعارك التهاويم في رأسه. ما الذي لمح له موسى؟ ظن أسامة أنه يحسده على عطف ماريا. بدأ يتوجس حتى من موسى. في نهاية شهر مارس؛ قبض أسامة مبلغًا ضئيلًا، وكان أفضل مما يحصل عليه في الشارع.
تشكلت قابليته بالحياة الجديدة بمضاضة. كان ينظر لنفسه كما لو أنه «أحد عناصر المجموعة الثامنة في كتاب الكيمياء. إنها خاملة.. لا تفقد ولا تكتسب» قال لموسى. افتقد لغب الرصيف، بائع الجرائد، أعمدة الشمس التي تنحت على وجهه نقوش الكفاح المرير كل صباح، وطالبة الطب ذات الروب الأبيض!
في إحدى الليالي، كان عبيد يرش جدران مكتبه بماء الفل. أتت امرأتان، إحداهن كانت ترتدي عباءة سوداء لماعة، مختولة الخصر. والثانية ترتدي تنورة مزركشة إلى الركبتين. دلفن إلى المكتب. تعالت القهقهات المتماجنة، ورن جرس الرئيس الذي يستجب له أسامة مثل كلب مدرب. رمق الفتاتين بخجل، طأطأ رأسه وبدأ يتعرق من الوضعية غير المحتشمة لهن. قارورتان على الطاولة، بلاك ليبال، كما تهجى. طلب منه عبيد أن يجلب مشروبات غازية وباردة سريعًا.
انضم موسى إلى السهرة الحمراء في المكتب المغلق. عندما خرج للحمام أخبره كمن يواسي عزلة صاحبه المنبوذ: هناك عمل قادم يتعلق بالمرأة!
كان أسامة وحيدًا يسمع قهقهاتهم المعربدة في الهزعة الأخيرة، سمع همهمات الفاحشة، شعر أنه في ورطة لا تليق بمكانته الاجتماعية ولا مستواه العمري، ولا مع أحلامه في إكمال الدراسة ودخول كلية الطب.
بكى ثم ثام.
في الظهيرة، كان رجل سمين يتأمل المدينة من خلف نافذة مجلس المنظمة، رآه أسامة من عتبة الباب الموارب، كان يرتدي قميصًا ورديًا ودشداشة حمراء على رأسه، شعره المجعد الطويل يغطي رقبته من الخلف، انفغر فم أسامة وتوارى خلف الباب عندما استدار الرجل ينادي: اليوم يا أستاذ عبيد..
عرفه من نبرته الجهورية: أنور كيكو. وضع أسامة يده في جيبه. لا شيء فيه ولكنه الخوف من الماضي.
كان كيكو هادئًا وعليه لحية خفيفة. سلم لعبيد قرصًا لا كتابة عليه. سأله عبيد: «كيف الدورة؟» ورد أنور: «إيمان مثل المطر».. وبعد صمت وجيز، أردف: «أمانتكم أمي من بعدي».
كان للجملة الأخيرة وقع في نفس أسامة، تذكر أنه لم يرسل لأمه أي مصروف منذ شهرين ولم يذهب إلى المدرسة.
آسى لما وصل إليه. وأخبره موسى عن حاضر أنور كيكو سابقًا “أبو مصعب” حاليًا:
«قامت المنظمة بدورة لمعالجة مدمني الحشيش. من كل دورة يأخذون فردًا لتأهيله، اصبر وستعرف.. أنت طيب».
في العصر، كان أسامة على كرسي السكرتارية، سمع عبيد وموسى يتشادان داخل المكتب. تلاحيا، غادر عبيد المكتب غاضبًا. خرج موسى من مكتب الرئيس والرضاب الأبيض حول شدقيه، ابتسم لأسامة الغارق في وحل التوجسات.
«يريدون أن أصور لغماً».
«لغمًا أم عبوة ناسفة».. تساءل أسامة فزعًا.
«لا فرق بين اللغم والعبوة.. كلاهما يؤديان إلى غرض واحد».
وران بينهما صمت لثلاثة أيام. بعدها حدث الانفجار. لغم زرع في كيس بلاستكي وسط الطريق، وحزام كان يرتديه أنور، انفجر تحت وفوق حافلة لطلاب المدرسة النموذجية، المدرسة ذاتها التي دخلها أسامة لثلاثة أيام. بُثت وصية أبو مصعب من القرص المدمج، وارتعد أسامة من كل مفصل، انهملت الدموع من عينيه، وقع في مصيدة الخوف.
«إلى أين؟» سأل موسى بصوت خفيض.
«المكان الذي أتيتُ منه.. سأضع حدًا للإحراج». رد موسى وهو يحمل أغراضه.
غادرا الاثنان..
عاد أسامة إلى الرصيف الضاج، كان واجمًا ومتدلهًا. تأمل فتاة تمشي وترج عجيزتها، كانت واحدة من اللواتي حضرن المنظمة. «امرأة ستفجر نفسها»، تخيل لوهلة. مشى قليلًا. رأى زميله بائع الجرائد يحمل صحيفة، وعلى غلافها صورة موسى مضرجًا بالدم وعنوان بالأحمر: مجهولون يغتالون الناشط موسى أمام منزله.
استيقن بأنه الضحية التالية، فر من الرصيف، عاد إلى أمه بومضة خاطفة، كان يرتعد تحت اللحاف وكان وجهه مثل قمر بين الأدخنة.
—————-
*قُدمت هذه القصة للمسابقة المشروطة “أنقذوا أسامة”، وأعلن منظمو الجائزة أنهم سيتواصلون مع كُتّاب القصص للتأكد من الملكية الأدبية، ولم يتواصل مع الكاتب أحد.