العالم الذي يرفع شعار “الحرب على الإرهاب” لا يحاربه ولا يحاصره ولا يضيقه، وإنما يستثمره ويوسعه ويستغله لتحقيق مصالحه، وما دام الأمر كذلك فإن العقود القادمة لا تبشر بتلاشي الجرائم الإرهابية، بل لمزيد من تركيزها وتوجيهها لتخدم القوى العظمى أولا، ثم لتخدم كل نظام بما يريد ثانيا. بين كل فترة وأخرى نسمع عن جريمة إرهابية في دولة ما يذهب ضحيتها مجموعة من المدنيين، كان آخرها ما حدث من جريمة تفجير كنيسة مارجرجس في مصر، والتي ذهب ضحيتها خمسة وعشرون قتيلا وسبعون جريحا، وكانت العادة أن أذهب في كتاباتي للبحث في الجذور الفكرية لتلك الجرائم الإرهابية حتى نتجه إلى تجفيف العروق والمنابع قبل أن تنبت وتثمر، ولكن الغموض والتساؤلات التي تكاثرت حول هذه الجرائم جرتنا إلى البحث عن أسباب أخرى قد تكون لها علاقة في استمرار تلك الظاهرة.
أستطيع القول باختصار إن لافتة “الحرب على الإرهاب” قد تحولت إلى لوحة خفية هي “الاستثمار في الإرهاب”، استثمار تحركه أنظمة وأجهزة مخابرات دولية، لتحقق مآربها ومصالحها، فمن هم المستثمرون في الإرهاب وكيف صنعوا من ذلك الشعار الزئبقي لعبة لتحقيق مصالحهم؟
نبدأ أولا من مصر وتفجير الكنائس المسيحية فيها، فالنظام المصري الذي يسوق نفسه على أنه محارب للإرهاب يستثمر في ذلك الإرهاب، فباسم الحرب على الإرهاب يحاول أن يثبت شرعيته ويغطي على عوراته الاقتصادية والسياسية، النظام الذي سخر أجهزته الأمنية والمخابراتية لحماية رأس النظام فقط، دون أن يقوم بمهمته الأساسية في حماية الشعب، هذا النظام هو المسؤول الأول عن تلك الجريمة، سواء كان متساهلا أو مسهّلا أو منفّذا، ولا استبعد الأخيرة في نظام قام على جثة ألف مصري، وبالاضافة للاستثمار الداخلي من تخويف المسيحيين من الإسلاميين فإنه يستثمر خارجيا من خلال استجداء الدول العظمى بدعمه المادي للحرب على الإرهاب، فيسوق نفسه على أنه رجلهم في المنطقة كما عمل السيسي مؤخرا مع ترامب.
أما أمريكا فلها نصيب الأسد في الاستثمار في الإرهاب فهي من ناحية وجدت في تلك اللافتة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مسوغا ومبررا للهيمنة والتوسع والتدخل في شئون كثير من الدول واللعب بين الأطراف المتصارعة دون حسم الصراع لأحدهما، وإذا أردت أن تتدخل في شئون دولة ما وتنتهك سيادتها فما عليها إلا أن ترفع شعار “الحرب على الإرهاب”. كما أنها استطاعت بذلك الشعار أن تحقق أمن إسرائيل بإشعال الحروب الطائفية في المنطقة، فتنشغل تلك الدول بصراعاتها وتترك إسرائيل -راعي المصالح الأمريكية في المنطقة- جانبا، وكانت الشعلة الأولى في العراق ثم تتالت الاشتعالات بطرق غير مباشرة في دول أخرى، وهي تستثمر أيضا في بيع أسحلة بكميات كبيرة. تشير بعض الاحصاءات إلى أن شركات السلاح قد حققت في عام 2015 أرباحا بقيمة 370 مليار دولار، تأتي الشركات الأمريكية في مقدمة تلك الشركات، كما أن الاستثمار يتحقق أيضا في نهب بترول المنطقة بأقل الأسعار عن طريق خلق الرعب في دول النفط العربية، فتظل تلك الدول النفطية تستنزف أموالها في مقابل حمايتها.
الشعار ذاتها قامت باستثماره روسيا، فمبررها في الحرب في سوريا هو الحرب على الإرهاب، وقد بات معروفا أن روسيا تدخلت للحفاظ على مصالحها بحماية أنظمة موالية لها، وحتى لا تجد نفسها معزولة في بحر المتوسط، بالإضافة أيضا لتحقيق مزيد من النقاط في صراعها مع أمريكا وبيع مزيد من السلاح أيضا.
أما أوروبا فوجدت نفسها مؤخرا في مشكلة ديمغرافية من خلال تزايد المهاجرين المسلمين، وزيادة المواليد في الأسر المسلمة هناك، ودخول بعض الأوروبيين الإسلام، مما جعل بعض الساسة الأوروبيين أن يربط الإرهاب بالإسلام ذاته، كي يحقق سياساته في التضييق على المسلمين هناك، أما اليمين المتطرف في أوروبا والذي بدأ يتصاعد مؤخرا فإنه يرفع شعارات عنصرية ضد المسلمين استثمارا بعد كل جريمة إرهابية.
أما إيران فقد استفادت من ذلك الشعار بوصف خصمها المذهبي أي السنة، بأنه إرهابي، وذلك عبر إبراز الهوية السنية لداعش، وعبر إبراز مقولات وأفكار في التراث السني الكبير تؤيد أو تدعو لمثل تلك الأعمال الإجرامية التي تقوم بها داعش، وعبر وصم عدوها الأساسي في المنطقة وهي السعودية بأنها راعية الإرهاب ومصدرته.
ليس النظام المصري وحده من بين الأنظمة العربية من يستثمر في الإرهاب وإنما تقريبا كل الأنظمة العربية على درجات متفاوتة، ويأتي على رأس الأنظمة نظامي العراق وسوريا، فالأول يغير الديمغرافيا العراقية بالحرب على مناطق سنية تستهدفها داعش من جهة وتستهدفها الجماعات الموالية للنظام من جهة أخرى، أما النظام السوري فقد وجد في تلك اللافتة مبررا للقضاء على الثورة السورية، والمزيد من الإغراق في الإجرام الذي وصل لتدمير المدن بأكملها بمن عليها، وليست جريمة السلاح الكيمياوي في خان شيخون منا ببعيد، فقد ادعى أن ذلك الغاز الكيمياوي كان بأيدي جماعات إرهابية، وهي الكلمة التي يعلق عليها الجميع استثماراتهم.
أما الإمارات فقد وجدت في الشعار فرصة للقضاء على تيار إسلامي عريض في الوطن العربي هم الإخوان المسلمين، إذ وظفت إعلامها ومالها لكل ما من شأنه أن يقوض تلك الحركة، وقد لاقوا مزيدا من الدعم من لاعبين إقليميين ودوليين.
نخلص من هذا كله أن العالم الذي يرفع شعار “الحرب على الإرهاب” لا يحاربه ولا يحاصره ولا يضيقه، وإنما يستثمره ويوسعه ويستغله لتحقيق مصالحه، وما دام الأمر كذلك فإن العقود القادمة لا تبشر بتلاشي الجرائم الإرهابية، بل لمزيد من تركيزها وتوجيهها لتخدم القوى العظمى أولا، ثم لتخدم كل نظام بما يريد ثانيا.
لا أنسى أخيرا استثمار بعض الخطباء الإسلاميين لتلك الجرائم الإرهابية في تخويف خصومهم، وتهديدهم إن هم استمروا في فكرهم المخالف لهم. هذا بالإضافة إلى أن الخطاب الديني التحريضي ضد كل مخالف هو المادة الخام التي تصنع أفراد وجماعات إرهابية توجهها أجهزة مخابراتية، فيكون ذلك المحرض بخطابه الديني هو شريك في الجريمة أولا، وشريك في صنع تلك السياسات الدولية والإقليمية التي يصدعنا بخطابه ليل نهار أنها تعادي الإسلام وتحاربه، فيما هو يمدها بعجينة الإرهاب لتخبزها كيف شاءت!!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.