لا يمكنك السفر إلى مدينة الحديدة اليمنية من دون أن تكون متنكراً وخائفاً. فالسلطة المطلقة لجماعة الحوثي في المدينة، جعلت ساكنيها تحت قبضتها العسكرية والأمنية المشددة، يمن مونيتور /العربي الجديد
لا يمكنك السفر إلى مدينة الحديدة اليمنية من دون أن تكون متنكراً وخائفاً. فالسلطة المطلقة لجماعة الحوثي في المدينة، جعلت ساكنيها تحت قبضتها العسكرية والأمنية المشددة، لذا فإن أي اشتباه بهوية زائر قادم من خارج المدينة الواقعة على البحر الأحمر، قد يؤدي إلى اعتقاله. لكن القبضة الأمنية لا تقتصر على داخل الحديدة، وإنما تبدأ من الطريق إلى المدينة. وبمجرد خروجك من العاصمة صنعاء باتجاه مدينة الحديدة، وهي رابع أكبر المدن اليمنية ويقطنها نصف مليون يمني، ترى بعينيك مظاهر سلطة جماعة الحوثي، التي تفوق كل ما شاهدته في المدن اليمنية الواقعة تحت سلطتها. فالطريق الذي يمتد لأكثر من 272 كيلومتراً، يخلو من نقاط عسكرية تابعة لجيش الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، فيما تتوزع نقاط تفتيش يديرها عناصر من الجماعة، ومشرف عسكري أعلى رتبة منهم، يتم فيها توقيف السيارات والحافلات الآتية من العاصمة اليمنية صنعاء، وإخضاعها للتفتيش الدقيق، لكنهم، وكتصرف قبلي، لا يدققون في هويات النساء. في مدخل مدينة الحديدة، وتحديداً في شارع كيلو 16، توجد نقطة تفتيش ضخمة. العشرات من مقاتلي الجماعة يحققون في هويات العابرين، إذ يتم وقف الحافلة وصعود مسلحين إليها، والتحدث مع السائق قبل السماح بالعبور. وبمجرد النفاذ من النقطة العسكرية، يتنفس الركاب الصعداء.
يعتمد قطاع كبير من أهالي الحديدة على عائدات المحاصيل الزراعية التي كانوا يصدرونها إلى السعوديةالدخول إلى مدينة الحديدة في الليل، وبداية فصل الصيف، يعني أنك لن تصادف أهالي المدينة. ففي مثل هذا التوقيت يعاني الأهالي من ارتفاع درجة الحرارة وانعدام الكهرباء، وعدم قدرتهم على شراء طاقة بديلة، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية. لذا يبقون على أسطح المنازل للتَبَرُد. ليس خلو المدينة من ساكنيها أول ما يصدم، وإنما شعارات جماعة الحوثي الدينية على جدران البيوت والمطاعم والمحلات والشوارع. كما تنتشر أقوال زعيم الجماعة، حسين بدر الدين الحوثي، وصوره، بمجسمات ضخمة، على امتداد الشوارع الرئيسية والفرعية في الحديدة. وقد تصدم بأن قباب المساجد والمصانع والأعلام صبغت بلون الجماعة الأخضر، واكتساح المنطقة بصور القائد العسكري للحوثيين، طه حسن المداني، الذي قتل قبل أشهر، والتي يفوق عددها الـ 500 لوحة موزعة على امتداد شوارع الحديدة.
السير في نهار الحديدة يعني رؤية الفقر الذي لم يره أحد. فالفقر المدقع لأهالي المدينة وصل إلى تخوم المجاعة وسوء التغذية والموت من الجوع. ويفترش المتسولون حديقة الشعب وساحل البحر، وستصادفهم في أي مكان تذهب إليه، بعضهم يشكل التسول مصدر رزقه الوحيد، والبعض الآخر، أفقرته الحرب وفقد عمله البسيط، واضطر للتسول، والبعض لم يجد سوى التسول بعد نزوحه من مناطق المواجهات الفقيرة، كباب المندب والخوخة. لكن الفقر في الحديدة، الذي يشكل أحد وجوهها البارزة، لا علاقة له بالحرب، وإن فاقمت حدته. ويروى عن البريطانيين، أثناء تواجدهم في اليمن، إطلاقهم إسماً بديلاً للحديدة في النصف الأول من القرن العشرين، وهو “الميناء الفقير” لشدة قساوة ظروف البؤس فيها تاريخياً. تقول الحاجة سعيدة إن “خيرات المدينة لغير أهلها. وجاءت الحرب وأفقرتنا”. لكن أحد المواطنين، الذي فضل عدم ذكر اسمه، علل سبب ازدياد الفقر في المدينة بـ”تركز مصدر دخل أهالي الحديدة على الزراعة والصيد، إذ يعتمد قطاع كبير من أهالي الحديدة على عائدات المحاصيل الزراعية التي كانوا يصدرونها إلى السعودية، إلا أن توقف التصدير أضر بالتجار والمزارعين الذين يعملون في تلك الأراضي. ورغم انخفاض أسعار المحاصيل الزراعية، إلا أن الأهالي يعجزون عن شرائها. فيما يعتمد قطاع آخر من الأهالي على صيد السمك، لكن أعمالهم تعطلت جراء تكرار قصف قوات التحالف لقوارب الصيادين. أما مداخيل ميناء الحديدة فلم تكن تذهب لصالح تحسين خدمات الدولة أو تسيير حياة المواطنين” رغم أن ميناءه معروف بتصديره أجود أنواع القهوة اليمنية.
تبيع جماعة الحوثي غالبية المساعدات الإغاثية أو تصادرها لصالح أسر مقاتليها على الجبهات
فقر أهالي الحديدة مأساوي، وكلما اتجهت إلى مديرياتها تتضاعف حدته. ففي المراوعة والقطيع وباجل، تشاهد “العشش” على امتداد النظر. بيوتٌ طينية مسقوفة بسعف النخيل، بلا كهرباء، بلا ماء، فقط عيون الأهالي المتسائلة عن سبب الزيارة. وكان سوء التغذية والمجاعة امتد من منطقة التحيتا إلى معظم أرياف المدينة. ويقول عبد الرحمن، أحد أهالي باجل، “لا نجد طعاماً نأكله، وأحياناً نبقى على الخبز والماء لأشهر”. وعن منظمات الإغاثة في الحديدة، قال أحد الناشطين، الذي فضل عدم ذكر اسمه، “لا توجد منظمات إغاثية تعمل داخل المدينة أو في أريافها، عدا منظمة اليونيسيف التي وصلت إلى بعض المديريات، وقدمت مساعدات للأهالي، لكنها لا تستطيع تغطية الأرياف الفقيرة، أو الدخول إلى مديريات الساحل، بسبب قصف طيران التحالف، كما أن غالبية المساعدات الإغاثية تستولي عليها جماعة الحوثي وتبيعها في الأسواق، أو تصادرها لصالح أسر مقاتليها على الجبهات”.
وإضافة إلى الفقر، فإن ما تلمسه في زيارة مدينة الحديدة هو حالة الخوف التي لا مثيل لها. إذ لا يتحدث الأهالي في السياسة أو الحرب، كما في المدن اليمنية الأخرى. فالخوف من أحد الوشاة، قد يكون سبباً في زجهم في سجن القلعة، حيث تحتجز جماعة الحوثي المعارضين السياسيين لها، يجعلهم لا يثقون بأحد. يقول أحد النشطاء السياسيين إن “مشكلة الحديدة ليست خوف الناس كما يعتقد، وإنما التعتيم الإعلامي للاعتقالات والموت جراء التعذيب في سجون المليشيات. فجماعة الحوثي تعتقل كل من تشتبه بمعارضته لها، وتمنع الحقوقيين من زيارة أهالي السجناء أو رصد حالات الإخفاء القسري”. وفي الوقت الذي يتم فيه تداول أخبار معارك الساحل وقرب دخول التحالف المدينة على شاشات الأخبار، يحاول أهالي الحديدة مواجهة أعباء حياتهم وتجنب الاختفاء في السجون أو الموت جوعاً أو جراء القصف، وهي مهمة صعبة في زمن الحرب.