الشرط الثالث، وهو الضبط، ويقصدون به أن كل راوٍ من رواته كان تامًّ الضبط إما ضبط صدر وإما ضبط كتاب، ويقوم هذا العلم على شرطي العدالة والضبط عن كل رواة الحديث، وهناك علل ومشكلات في هذا الشرط سأتوقف عندهما لنرى كيف كان صعب التحقق على الواقع رغم الجهد المبذول في ذلك:
تحدثت في الحلقة السابقة عن الشرط الثاني من شروط صحة الحديث التي قال بها المحدثون وهو شرط “العدالة”، ورأينا كيف أن ذاك الشرط كان صعب التحقق وسهل الاختراق، وذكرت عدة علل على ذلك الشرط، واليوم سأتوقف عند الشرط الثالث من شروط السند لننظر هل استطاع المحدثون تحقيقه بالشكل المطلوب أم كان صعب التحقق وسهل الاختراق كالشرطين السابقين.
الشرط الثالث: الضبط، ويقصدون به أن كل راوٍ من رواته كان تامًّ الضبط إما ضبط صدر وإما ضبط كتاب.
هذا الشرط هو إحدى دعامتي “علم الرجال” أو “علم الجرح والتعديل” حيث يقوم هذا العلم على شرطي العدالة والضبط عن كل رواة الحديث، وهناك علل ومشكلات في هذا الشرط سأتوقف عندهما لنرى كيف كان صعب التحقق على الواقع رغم الجهد المبذول في ذلك:
أولا: ما أثبته علماء الحديث من جواز الرواية بالمعنى، فقد جوزه كثير من السلف من التابعين والمحدثين، قال الترمذي: “فأما مَن أقام الإسناد وحفظه، وغيَّر اللفظ، فإنَّ هذا واسِع عند أهل العلم إذا لم يتغيَّر به المعنى”، وساق عدَّةَ آثار في ذلك؛ فعن واثِلَة بن الأسقع قال: “إذا حدَّثناكم على المعنى، فحسبكم”، وعن ابن سيرين: “كنتُ أسمع من عشرةٍ اللَّفظ مختلف والمعنى واحد”، وعن وكيع: “إن لم يكن المعنى واسعًا، فقد هلَك الناس”.
قال ابن رجب معلِّقًا وشارحًا كلامَ الترمذي: “ومقصود التِّرمذي رحمه الله بهذا الفَصل الذي ذكَره هنا أنَّ مَن أقام الأسانيد وحفظها، وغيَّر المتونَ تغييرًا لا يغيِّر المعنى – أنه حافِظ ثِقة يعتبر بحديثه، وبنى ذلك على أنَّ رواية الحديث بالمعنى جائزة…، وكلامه يشعر بأنه إجماع؛ وليس كذلك، بل هو قول كثيرٍ من العلماء، ونصَّ عليه أحمد، وقال: (ما زال الحفَّاظ يحدِّثون بالمعنى)” (شرح علل الترمذي لابن رجب ص 145 وما بعدها).
ولا يخفى ما في هذا التجويز للرواية بالمعنى من سماح لتبدل ألفاظ مكان أخرى مما يخل بالمعنى، وحتى إن قالوا باشتراط العلم باللغة وبما يحيل المعنى في الراوي، فرغم صعوبة تحققهم من تلك الشروط عند كل فرد فإن القاعدة التي عليها محققو اللغة أن كل اختلاف في المبنى يؤدي لاختلاف في المعنى، والحديث الذي سيتدوال بالمعنى لقرنين من الزمان لابد أن يصيبه انحرافه في المعنى قل أو كثر بناء على تلك القاعدة، ولذلك لم يصح عند جميعهم نقل القرآن الكريم بالمعنى خوفا من تغيير المعنى، ولو كان شرطهم بالعلم باللغة كافيا لقالوا به في نقل القرآن، ولكنهم لم يقبلوا مطلقا بروايته بالمعنى خوفا من تغيره وتبدله.
وأما من قال بعدم جوازه فإنه لا يفيده ذلك القول إذ النقل للرواية بالمعنى هو ما حصل واقعا. يقول السيوطي في تدريب الراوي (وهو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة). بل وهو ما عليه أكبر محقق للحديث وهو البخاري، يقول الحافظ ابن حجر عن الإمام البخاري: “ربما كتب الحديث من حفظه، فلا يسوق ألفاظه برمَّتها، بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه”. وأما قول ابن حجر عن الإمام مسلم بأنه “كان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق”. فإن ذلك لا يكفي لأن الرواية نفسها وصلت له بالمعنى، وتحري الألفاظ في الطبقة الخامسة في سلسلة الرواة لا تكفي، مع العلم أن عبارة ابن حجر لا تنفي مطلقا قبول الرواية بالمعنى ولكن مع التحرز والتحري. وقد أيد تلك المقولة في الإمامين كثير من المتأخرين كالسيوطي في (تدريب الراوي)، والصنعاني في (توضيح الأفكار ) وغيرهما.
وأما ضبط الكتاب الذي ذكروه في تقسيمهم لنوعي الضبط، ويقصدون به أن الراوي قد دون تلك الرواية ونقلها من كتابه، فبالإضافة إلى ندرته جدا فإن التاريخ يقول لنا أن التدوين كان متأخرا ولم يكن هناك تدوين للروايات، خاصة مع وجود الرواية الأشهر عند المحدثين والتي تقول بمنع تدوين أحاديث النبي عليه السلام، والبعض يعود لبداية التدوين إلى الإمام مالك المتوفي سنة 179هــ. وهذا يعني أن الطبقات الأولى في سلسلة الرواة لم تكن تدون، أما تدوين آخر السلسلة أو تدوين فرد فيها دون غيره فليس له قيمة كبيرة لأن الاختلال لا زال موجودا.
ثانيا: صعوبة التحقق من ضبط الرجال، فالنسيان صفة بشرية، والضبط صفة متقلبة لا تلزم صاحبها باستمرار، فقد يأتي عليه وقت يكون ضابطا لما يسمع، وتأتي أوقات أخرى يضعف فيه ذلك الضبط لأسباب كثيرة، ومن الصعب تتبع كل فرد لقياس الضبط عنده في كل مراحل حياته، وما عمله المحدثون من ذكر الاختلاط عند بعض الرواة في آخر عمرهم لا يكفي، فمن ذكروهم بتلك الصفة قليل جدا، ولا تتناسب مع العدد الطبيعي في أي مجتمع تصيب أفراده تلك المشكلة.
ثالثا: إذا جوزنا -منطقا- بعدالة الصحابة جميعا فكيف نستطيع -منطقا وعقلا- أن نقبل بأنهم جميعا تامين الضبط، فقلة الضبط ليس عيبا أو ذنبا في حقهم، ومن الطبيعي أن يكون بعضهم عرضة للنسيان أو قلة الضبط، وعلى هذا فإن حكم المحدثين الجماعي بأن الصحابة تامين الضبط لا يمكن قبوله منطقا وعقلا. وأظن أن لابن الأمير الصنعاني قولا مثل هذا ولا أستحضر الآن في أي كتاب وصفحة.
رابعا: ما وجد في كتب الحديث من تسرب للإسرائيليات، والسبب يعود -إن أحسنا الظن- إلى قلة الضبط، أما إن ذهبنا إلى تعمد ذلك ممن في إسلامهم شك من أهل الكتاب ككعب الأحبار الذي قيل عنه كلاما كثيرا جمعه الشيخ رشيد رضا في المنار، فإن تلك مشكلة أكبر.
يؤيد تلك العلة ما رواه مسلم بن الحجاج في كتابه “التمييز” ص 128: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بسر بن سعيد: اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وذكره ابن كثير في “البداية” 8/109، عن مسلم، وانظر: “تاريخ ابن عساكر” 19/21/2، و”سير أعلام النبلاء” 2/606.
وتشير بعض الروايات إلى اجتماع أبي هريرة وكعب، وسماع كل واحد من الآخر. روى أحمد في مسنده عن القاسم بن محمد قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة، يحدث كعبا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب يحدث أبا هريرة عن الكتب. وأخرج البيهقيّ في المدخل من طريق بكر بن عبد اللَّه بن أبي رافع عن أبي هريرة أنه لقي كعب الأحبار فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة!!
وليس بالضرورة أن يقع الخطأ من أبي هريرة وإنما قد يقع من بعض الرواة عن أبي هريرة فيخطئ الراوي فيجعل الخبر عن بني إسرائيل حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو يجعل الكلام الموقوف عن أبي هريرة مرفوعا عن النبي عليه الصلاة والسلام.
مثال ذلك: روى مسلم وأحمد من طريق عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: ” خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل.
فهذا الحديث يقول عنه العلماء أنه موقوف على كعب الأحبار وليس من قول النبي عليه السلام، قال البخاري في تاريخه: “وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح”.
وقال ابن كثير في “تفسيره” بعد أن أورد الحديث من طريق مسلم: “هذا الحديث من غرائب “صحيح مسلم”، وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري، وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعا”.
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: “وأما الحديث الذى رواه مسلم: “خلق الله التربة يوم السبت” فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم”.
وإذا كان هذا الحديث قد تسرب إلى صحيح مسلم منسوبا للنبي عليه السلام فإن هذا يجعلنا نتوقف عند أحاديث كثيرة على شاكلته يتضح من خلال موضوعها أنها من الإسرائيليات، كتلك الأحاديث التي تتحدث عن أول الخلق وعن الأمم السابقة بتفاصيل لم يشر لها القرآن لحكمة ما، واكتفى بما نحتاجه للعبرة، كما أنه عدل بعض خرافات كانت في التوراة.
بهذه العلل والمشكلات لا يمكننا الركون على هذا الشرط لإثبات صحة الحديث.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.