كتابات خاصة

كيف نتعامل مع الحديث (12)

عبدالله القيسي

يحرص المحدّثون على التأكد من اتصال إسناد الرواية التي يُراد الحُكم عليها، فإذا وجدوا انقطاعاً فيها فإنهم يحكمون عليها بالضعف في الجملة ـ؛ لأنها إذا لم تكن متصلة فمعنى ذلك أن هناك بعض الرواة قد سقطوا من الإسناد، ونحن لا نعلم حال هذا الراوي الذي سقط، هل هو عدل ضابط أم لا. يقسم المحدثون الروايات التي دونت بعد قرنين من زمن النبي عليه السلام إلى قسمين: صحيحة وضعيفة، ثم زاد الترمذي الحديث الحسن فصارت ثلاثة أقسام، صحيح وحسن وضعيف، وقبل أن أدخل في نقاش الشروط التي اعتمدوها لتمييز الصحيح عن غيره، أقف مع التسمية ذاتها، فهي تسمية لا تعتمد التقابل في المعنى، إذ أن عكس الصحيح هو السقيم أو الخطأ، وعكس الضعيف هو القوي، وعكس الحسن هو القبيح، وهنا نجد أن التسمية بحد ذاتها لم تكن منضبطة، وكان الأولى برأيي أن يستخدموا لفظي القوة والضعف وذلك لأن هذه التسمية تتجه أساسا لشروط قوة السند أكثر منها لشروط صحة المتن، وهو ما عمله المحدثون أنفسهم إذ اعتمدوا واجتهدوا في البحث عن شروط قوة السند مغفلين إلى حد كبير شروط صحة المتن، ولذا تكاثرت الروايات المتناقضة والغريبة والشاذة والمنكرة، هذا برغم أنهم ذكروا شرطين لصحة المتن، إلا أنهما لم يلقيا اجتهادا حقيقيا كما اجتهدوا في شروط قوة السند، ولعل هذا هو ما جعل الفقهاء يهتمون بالمتن أكثر من السند فردوا روايات كثيرة قبلها المحدثون وحكموا عليها بالصحة، ومثال ذلك ما اشتهر عن أبي حنيفة من رده لروايات كثيرة، وهذا الطريقة في الحكم على الحديث بأنه “قوي السند” هو ما استخدمه بعض المحدثين المعاصرين -كشعيب الأرناؤوط في تحقيقه لبعض الكتب- بدلا عن الحكم على الحديث بالصحة بشكل عام، ولذا فإني أرى أن الأولى هو أن نطلق على سماه المحدثون صحيحا بأنه قوي السند وما سموه ضعيفا بأنه ضعيف السند، ثم نتجه للمتن لنطرح عليه الأسئلة التي تختص بصحة المتن من سقمه، وسأضع هذا الشروط في مقال تال إن شاء الله.
لقد عرف المحدثون الحديث الصحيح بأنه “ما اتصل إسناده برواية عدلٍ تمَّ ضبطهُ عن مثلهِ إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معلاً”، فهذه خمسة شروط اعتمدوها لصحة الحديث: اتصال السند وعدالة الراوي وضبط الراوي وعدم الشذوذ وعدم العلة، وهي شروط في ظاهرها القوة، لكنها في معمل التطبيق صعبة التحقيق وسهلة الاختراق، فبرغم الجهد الكبير الذي قام به المحدثون في التنقيح والتنقية إلا أنها لم تكن كافية من جهة، وكانت صعبة التطبيق من جهة أخرى، وهذا ما سأقف عليه لمناقشة كل شرط منها على حدة.
الشرط الأول من شروط صحة الحديث هو اتصال السند، ويتحقق بسماع كل راوٍ للحديث من الراوي الذي يليه.
يحرص المحدّثون على التأكد من اتصال إسناد الرواية التي يُراد الحُكم عليها، فإذا وجدوا انقطاعاً فيها فإنهم يحكمون عليها بالضعف في الجملة ـ؛ لأنها إذا لم تكن متصلة فمعنى ذلك أن هناك بعض الرواة قد سقطوا من الإسناد، ونحن لا نعلم حال هذا الراوي الذي سقط، هل هو عدل ضابط أم لا.
هذا الشرط قوي في ظاهرة ولكنهم حينما أتوا لتطبيقه في الواقع اكتفوا فقط بأحد أمرين في تحقيقه:
الأول: أن يصرح الراوي بإحدى صيغ السّماع كأن يقول الراوي : حدثنا ، أو حدثني ، أو أَخبرنا ، أو أخبرني ، أو أَنبأنا ، أو أنبأني ، أو سمعت ، أو قال لي ، أو قال لنا ، أو نحوها من صيغ السماع.
والسؤال المطروح هنا ماذا لو كذب الراوي وقال حدثني ولم يحدثه؟
سيقولون: هذا الشرط مرتبط بالشرط الذي يليه وهو عدالة الراوي فإذا سقطت عدالة الراوي شككنا في اتصال السند.
إذن سنرى لاحقا كيف ضبطوا عدالة الراوي وهل استطاعوا أم لا؟
أما الطريقة الثانية لمعرفة الاتصال فهي: أن يأتي الراوي بصيغةٍ تحتمل السّماع وغير السّماع ، كأن يقول الراوي : عن ، أو أن ، أو قال ، أو حدث ، أو روى ، أو ذكر ، وغيرها من الصيغ التي تحتمل السّماعَ وعدم السّماع .
وحتى تحمل العنعنة على الاتصال لابد من توفر الشروط الاتية: الأول: عدم التدليس. الثاني: المعاصرة . الثالث: ثبوت السّماع. وقد اكتفى مسلم بالشرطين الأوليين، أما الشرط الثالث فقد اشترطه البخاري.
لقد شنع المحدثون على التدليس في الحديث وذمّوه، ووصفوه بأنّه أخو الكذب، وقد أدرجوا -في الغالب- تلك الأنواع تحت قسمين من التدليس هما:
١ ـ تدليس الإسناد: وهو أن يروي المحدّث الحديث عمّن لقيه ولم يسمعه منه ، موهما أنّه سمعه منه. أو عمّن عاصره ولم يلقه ، موهما أنّه لقيه أو سمعه منه. أو يسقط الراوي شيخ شيخه أو من هو أعلى منه ، لكونه ضعيفا أو صغير السنّ تحسينا للحديث.
٢ ـ تدليس الشيوخ: وهو أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسمّيه أو يكنّيه، ويصفه بما لم يعرف به كيلا يعرف.(انظر: معرفة علوم الحديث : ١٠٣ ـ ١١٢ النوع ٢٦ ، مقدّمة ابن الصلاح : ٤٢)
والسؤال المطروح هنا هل نجى أحد من التدليس بمن فيهم كبار المحدثين؟
سأكتفي بالإجابة التي جاءت في (تهذيب الكمال ج22/ص235) “عن شعبة: ما رأيت أحدا من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا عبد الله بن عون وعمرو بن مرة”.
ومشكلة التدليس لم تنج منها كتب الحديث جميعا بما فيها كتابا البخاري ومسلم، وقد حاول بعض المدافعين أن يجعل جاءت رواية المدلس في الصحيحين مقبولة، سواء كان يدلس عن ضعفاء أو غير ضعفاء، إحساناً للظن بالصحيحين، وهذه طريقة ليست علمية إذ ينطبق على الصحيحين ما ينطبق على غيرهما.
وهناك علة أخرى يتجاوزها المحدثون لأسباب جاءت في سياق الصراع السني الشيعي وهي تتناقض مع شرط الاتصال وإن استثنوها، إنها علة “تدليس الصحابة” قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/608):” قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول : كان أبو هريرة يدلس.! قلت – القائل الذهبي – : تدليس الصحابة كثير، ولا عيبَ فيه؛ فإنَّ تدليسهم عن صاحبٍ أكبر منهم؛ والصحابة كلهم عدول”.
وسأدع ما قالوه عن عدول الصحابة إلى المقال التالي وأكتفي هنا بإثبات ما قالوه من تدليس الصحابة الذي ينقض شرط الاتصال، وتدليس بعض الصحابة مشهور كروايات من كانوا صغار السن منهم ورووا عمن هو أكبر منهم كابن عباس، وكذلك من أسلم منهم متأخرا وروى روايات تعود زمنيا لقبل إسلامه كما حصل مع أبي هريرة.
أختم بهذه القصة التي ذكرها الحافظ المزي في (تهذيب الكمال ج31/ص558) والتي تجعلنا نعيش أجواء رواية الحديث في زمن تدوينه وما عمله بعض القصاص من حفظ لأسانيد بعينها اشتهر عنها القوة ثم نسبة ما شاءوا إليها من الحديث: “قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ : أخبرنا الزبير بن عبد الواحد الحافظ، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الواحد البكري، قال: سمعت جعفر بن محمد الطيالسي يقول: صلى أحمد بن حنبل و يحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل و يحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله خلق من كل كلمة منها طير منقاره من ذهب و ريشه من مرجان ” و أخذ في قصة نحو من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى و يحيى ينظر إلى أحمد فيقول: أنت حدثته؟ فيقول: والله ما سمعت به إلا الساعة، قال: فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه و أخذ قطاعهم، ثم قعد ينتظر بقيتها، فقال له يحيى بن معين بيده أن تعال، فجاء متوهما لنوال يجيزه، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل و يحيى بن معين. فقال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان و لابد و الكذب، فعلى غيرنا. فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، ما علمته إلا الساعة. فقال له يحيى: و كيف علمت أنى أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين و أحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر، أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما! قال: فوضع أحمد كمه على وجهه، فقال: دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما”!!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى