ومع كل تبجُّح الجاني ونشوته الزائفة وكل المسافات التي ضربها بين جسدينا؛ أحسَّك تصغي لروحي وتهدهدها بيدك الحانية التي استعارها التاريخ بعض الوقت ليهدهد بها اليمن ولتفتح عينيه للضوء الذي يتسلل بشارة الفجر القريب. تتأوه في ظلمة الليل، تتقلب على فراشها وحيدة، تتراكض الأحزان في فؤادها ويحرث في قلبها الاشتياق ودياناً كثيرة.
بالأمس، كان هنا جواري يُصغي لأنَّاتي ويسند روحي المهدودة ويوشوش بهمساته في فؤادي العاشق..
اختطفوه. من يلصقون اسمهم جوار اسم الله!
ياالله، أنت تراني بعينيك في صحراء الوحدة حولي رماح الليل مُشرعة ويصعد إلى سمعك بوحي المعذَّب المحروم من قلب رفيقي المُنصت الرؤوف..
ألا يستحي هذا المجرم أن يتخذ من الإله العادل الرحيم جسراً يعبر فوقه نحو مشاريعه الآثمه؟!
هل هو الله الذي سجن أبا أولادها وشريك عمرها؟
هل هو الله من بتر جزءاً من روحها، وقذف به في الزنازين المجهولة؟
يجهل السجان أن قلبها لم يسلم الراية لأبي حذيفة إلا بعد عِشرة أعوام كانت ترى منه سلوكاً صادقاً يسبق الآخرين حثيثا يبحث عن مرضاة الله.
قطعت حوارها مع النفس ونهضت من فراشها تضيئ ظلمة الصالة، تقصد المطبخ لتبلل ريقها بشربة ماء، وحين فرغت عرِّجت على غرفة الأولاد، وكانوا يغطُّون في نومٍ عميق. أخذت من بين أحضان طفلتهما (نور) صورة والدها.
نور التي لا تنام إلا محتضنةً صورته. هل يصدق قلبك البريء يا بنيتي أن فوق الأرض من يذيقنا كل هذا الظلم؟! لربما تهبها هذه الصورة الجامدة شيئاً من الحب والأنس والأمان الذي كان يهطل على قلبها الصغير حين كان أبوها يحكي لها حكاية المساء قبل النوم.
صادفت (نور) ذات ليلة فارشةً سجادة أبيها وهي ترفع يديها مقلدة طريقة أبيها في الابتهال تدعوا: يا رب فاقدة لبابا.. يارب هات لي بابا.. يا رب رجعه من السفر قدني فاقده له!
السفر، هي الكذبة البيضاء التي يقبلها قلبها الشفاف المحب..
حذيفه ذو الإحدى عشر ربيعا، يغطُّ في نوم عميق وظهر جلياً وجهه تقطر البراءة من كل تفاصيله.. تبسمت وهي تتذكره يتصنع الجدَّ سائر اليوم يقول لها باعتداد طفولي مضحك: أنا رجال البيت لوما يرجع أبي. اااه يا حذيفة يخبرني النوم ووجهك كم أنت بريء يابني–
أدفئتهم جيدا كما كان يفعل والدهم حين ينهض من النوم ليدثرهم. كانت مناماته قلقه أن لم ينهض في تلك الساعة يطمئن على دثارهم خصوصاً في فصل الشتاء..
مر الصيف يا أبا حذيفة وعرَّج الخريف ولم يزهر هذا الربيع، وروحك ليست معنا، وجاء الشتاء ولم ترجع إليَّ بعد..
آه يا زوجي، ما أقسى برودة الظلم وما أرحم الشتاء!
منذ غاب وهي تنوب عنه في كل واجباته.. تعلم أن ما يخفف عنه نار الاشتياق ووطأة الاختطاف يقينه بأنها ستفعل وسعها لكي لا يشعر الأولاد بالفارق الذي يصنعه الغياب.. هو في السجن موثق القيد، وهي هنا تؤدي الأمانة وتربي الصبر في بيتها، وتسقي ورود الأمل كل صباحٍ ومساء..
لكن من يمسح على قلبها المُرهق وروحها الملتاعة بالاشتياق..
في الليل تشهد نفسها حرباً تشنه عليها وحدتها وخواطر النفس،
تُنازل الضعف والوهن.. في الليل يصبح فكرها ساحة عراك وحرب.
تهجم عليها الخواطر، وتحاصرها وتطلب منها السقوط في وهدة اليأس والتيه والضياع. تحاول انتزاع التأوهات الآسفة المنحرفة.. تبتغي مني يا حبيبي. نسياناً للعهد الذي قطعته لك بلا كلمات.. قطعته لك في كل ليلة وكل صبح عشناه سوياً تريدني الخواطر ُمولولة وخائرة القوى العن الأيام واشرب كل فكرة سوء وضعف يقين.
كن مطمئناً يا صدى روحي؛ لن يكون ذلك. ليوم الشدائد صغت حياتي.. للتحديات العظيمة التي يعقبها فجر الأوطان كنت تعلمني قدرة الانسان على المصابرة وتؤكد لي بلهجتك الواثقة إن العزيمة والايمان صخرة تتكسر على ظهرها كل محاولات الجاني للنيل منا ومن ثقتنا بقدرتنا على الانتصار. كنت تحقن روحي باستعذاب الكفاح وحياة النضال. وحين كنت اسمعك اسأل نفسي، هل حقاً سيأتي هذا اليوم الذي يُطلب مني أن أتدبر حياتي وأن اعالج جراحات الأيام وهو وراء أسوار الغياب!
ها قد جاء هذا اليوم وساقتنا ميليشيات الكارثة صوب هذه الأيام المُرَّة.
وقبلتُ؛ قبلت يا زوجي التحدي، ولم أظهر وهناً لظالم ولم تعرف روحي تذمَّراً من هذا الطريق الذي مشيناه معاً بقناعاتنا، وها نحن عن صدرٍ رحب ندفع الثمن..
مرَّ على خاطرها مشهد مغادرتها غاضبة لمنزل أبيها في يوم جمعة ٍفائت. حين سمعت حديثاً خفيضاً يتردد في زوايا المنزل يلقون باللائمة على رفيقها ويستخفون باختياراته التي كانت أوضح في عقله من الشمس وأرسخ في فؤاده من الراسيات!
لا عليك منهم ياحبيبي.. تلك طريقنا التي مشتها بوثوق الملائكة أقدامنا وبإيمان الأنبياء اندفعت نحوها قلوبنا وضمائرنا المحبة للخير والنهضه لهذا الشعب المعذَّب..
هُم يا زوجي مثل كل تلك الجموع التي في الخارج تتفنن في إلقاء اللوم على الضحايا وتغازل سيوف الجلادين.
قلت لي فيما مضى إن تلك الحياة لا تليق بمؤمن هبط إلى الأرض يعبد الله، وها أنا على عهدي لك احارب الزيف واحتقر الضعف وادرُّب نفسي على البطولة والبأس.
آه يا ابا حذيفة.. كانت الأيام تمشي بيسر كماء الجداول لكنها اليوم تزمجر في وجهي وتجثم على روحي التي تعزف قيثارة الشوق والحنين كل لحظة.. ما أطول الليل يا زوجي وأنت هناك وراء القضبان والأسوار الظالمة
اعرف يا حبيبي أن ليلك أقسى من ليلي.. وأنا هنا في عُشِّنا استمد صبري من روحك المُجابهة لكل عذابات السجَّان ومكره البائس.
ومع كل هذا المكر في إخفائك وهذه الأسوار التي تحيطك وأنت الأعزل..
ومع كل تبجُّح الجاني ونشوته الزائفة وكل المسافات التي ضربها بين جسدينا؛ أحسَّك تصغي لروحي وتهدهدها بيدك الحانية التي استعارها التاريخ بعض الوقت ليهدهد بها اليمن ولتفتح عينيه للضوء الذي يتسلل بشارة الفجر القريب.
يديك غابت عني وعن أولادك.. لكنها تجاور بلا انقطاع أو سأم يمننا المتحدية المقاومة..
يمن العدالة والحضارة والكرامة.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.