يعلنها أدوغان صريحة أن كتاب الله وسنة نبيه هما منهجه وحزبه، أو خريطة طريقهما، مع أنه لا يزال في وضع (استضعاف) أيّاً تغيّر الحال نسبياً. ثم يأتي من يحلو له تسجيل منجز وهمي لعلمانيته (التلفيقية) بذريعة أنها مطابقة أو مقاربة لـ(علمانية) أردوغان!! شعار علماني وقيم إسلامية:
والآن وبعد إيراد تلك الشواهد والمناقشة للفرضيتين السابقتين، أو الفرضية المركبة المنبثقة عن مناقشة واحدة من أبرز وظائف الدولة في الإسلام أعود فأتساءل: ما الذي يستنتجه الباحث في فلسفة العلمانية هذه لدى أردوغان وحزبه؟!
الواقع: لست أرى في ذلك المفهوم بالنسبة لأردوغان وحزبه سوى استنان بموقف عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين طالب نصارى بني تغلب (وهم من بني تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية) (33) بأخذ الجزية منهم، فأبَوْا ذلك، وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين، فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم، ثم صالحهم على ما يأخذ منهم عوضاً عن الجزية . فالمأخوذة منهم جزية، غير أنه على غير صفة جزية غيرهم، وما أنكر أخذ ذلك منهم أحد (34) ونقل الشافعي عن عمر أنه قال : ” هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم ” (35).
زد على ذلك أن أردوغان قال في السياق نفسه ما يعدّ النموذج القياسي الحاكم لحزبه أو البرادايم ( (Paradigm) في تبني ذلك المفهوم للعلمانية حين قال:
“لكن قبل ذلك : هناك نبينا المحبوب، وسنته هي خريطة طريقنا، وفوق هذا هناك كتاب الله”.
فأيّ علمانية (سلفية) هذه التي يتحدث عنها أردوغان؟! خاصة إذا كان بعض مروجي نمط تلفيقي من العلمانية يعدّونه علمانية ثالثة أو غير ذلك من الأوصاف والتسميات، قد يسارعون- أو بعضهم- إلى ادّعاء أن مايتحدث عنه أردوغان وحزب العدالة والتنمية يؤكّد أن بالإمكان تقديم نموذج مغاير لتلك العلمانية الكلية الشاملة، التي تستبعد الدين والأخلاق، أو العلمانية الجزئية التي يحسبونها – وفقاً لتوصيف المفكر عبد الوهاب المسيري ( ) – غير مراعية لمرجعية المجتمع والدولة، مع أن المسيري – عند التحقيق- لم يقصد ذلك المعنى، بل مازاد عن التشديد على شأن التخصص مع بقاء المرجعية الإسلامية حاكمة للمجتمع والدولة( ) . مع أنهم – حتى لو سلّمنا بسلامة النية- مازادوا إلا (بهارات) عن توصيف مستل في أساسه من (مستغربين) من بيئات إسلامية (في الأصل)، يعمدون إلى عملية تخريب ممنهج للفكر الإسلامي من داخله، فيحلو لبعض المغرمين بأفكارهم من ضحاياهم وصفهم (في عالم اللامعيار واللامنهج) بـ(المفكرين الإسلاميين الكبار) ليقدموا فكرتهم عن الدولة الإسلامية على نحو مغاير من الجذور للدولة التي عرفها المسلمون في جمهورهم، على مدى تاريخهم بما فيه من عصور ذهبية متميّزة، بل لم يعرفها كبار محققي علماء الإسلام ومجدديه ومجتهديه العظام، في كل العصور ومختلف الأقطار، بعد أن يعمد هؤلاء (الخرَّاصون) وضحاياهم إلى اتنزاع روح القرآن العظيم في الحكم والشريعة- خاصة- أمّا السنة النبوية، فتعمد قراءتهم الشاذة تلك إلى إنكارها بالجملة، إلا من تطبيقات شعائرية أساسية محدودة، وتعليمات تهذيبية تعدّها من الأخلاق الإنسانية، أكثر مما هي من تعاليم السنة النبوية، على حين يعلنها أردوغان صريحة مدوية :
“لكن قبل ذلك : هناك نبينا المحبوب، وسنته هي خريطة طريقنا، وفوق هذا هناك كتاب الله”.
يعلنها أدوغان صريحة أن كتاب الله وسنة نبيه هما منهجه وحزبه، أو خريطة طريقهما، مع أنه لا يزال في وضع (استضعاف) أيّاً تغيّر الحال نسبياً. ثم يأتي من يحلو له تسجيل منجز وهمي لعلمانيته (التلفيقية) بذريعة أنها مطابقة أو مقاربة لـ(علمانية) أردوغان!!
يُسأل أردوغان في الحوار المشار إليه ذاته: ” ألست ديكتاتوراً كما تصفك الصحافة الغربية؟”!
لم يجبه أردوغان إلا بتساؤله عن سرّ حرص الغرب على أن يجرّه إلى هذا المربع ، ثم أعقبه بقوله:
” لايمكن لمسلم أن يكون ديكتاتوراً”!! (36).
ولو كانت علمانية أردوغان وحزبه من ذلك الصنف الذي يقصي الدين عن السياسة والحياة ومجالاتها المختلفة لجاءت إجابته بعيدة عن ما يعدّه العلمانيون (إقحاماً) للدين في كل ذلك، وبالأخص السياسة، كأن يردّد -مثلاً-: “أنا رجل دولة علماني، ولايمكن لعلماني حقيقي أن يكون ديكتاتوراً”، لكنه اختار إجابته بعناية ذات دلالات شبه صريحة على قناعاته ومسار حزبه!
ومن الملاحظ في ذلك الحوار الخاص بالجزيرة جرأة الرئيس أردوغان التي لاتخفى حين صرّح في ختامها تعليقاً على سؤال محاوره بأن هناك من ينظر إلى أردوغان بأنه مؤسس الجمهورية التركية الثانية، بعد أتاتورك مؤسس الأولى؟ بقوله:” لست أنا من يضع نفسه في مقارنة غيره، بل الشعب هو من يحق له أن يحكم” (37).
ولا شك أن إجابته تلك تحمل قدراً من الثقة بالنفس، بل التحدّي، إذ لم يتهرب أو يحاول الابتعاد عن مقارنة نفسه مع مؤسس الدولة التركية الموصوف بـ( أتاترك) أي
( أبا الأتراك)، أو (معبود) العلمانيين الأتراك -بتعبير أدق- لو كان ثمة توقير- ولا أقول تقديس بالضرورة- أو مهابة حقيقية له، ولسارع -في خشوع- بإظهار التواضع أمام شخصية (مقدّسة) لدى العلمانيين أتباع أتاترك، وبادر إلى التبرؤ من صياغة السؤال على ذلك النحو، وأنها مسؤولية الصحفي وحده، الذي أراد توريطه في هذه المقارنة التي لا أساس لها ولا وجه!!
أما حين وُضع أردوغان أمام سؤال الهوية، أي هوية حزب العدالة والتنمية والاتهامات المتكررة له بأنه يسعى لتكوين (حزب إسلامي) بهدف (أسلمة تركيا)، ونحو ذلك فقد عاد أردوغان مؤكّداً أنه لايتردّد أن يكرّر ويؤكّد ذلك أينما ذهب أنه (مسلم) وتساءل:” هل يقول المسيحي عن نفسه: إنه نصراني؟ هل يقول اليهودي عن نفسه إنه يهودي؟ هل يقول البوذي عن نفسه إنه بوذي؟ هل يقول الملحد عن نفسه إنه ملحد ؟ فلم لا أقول إنني مسلم” ثم أكّد على رفضه التشدّد ليس أكثر (38).
ولك أن تقرأ القفزة النوعية في شبه المماهاة بين الإسلام بوصفه هوية أمة، ومنها المجتمع التركي- وذلك ثابت من الثوابت لدى كل مسلم- وبين الاتهام بما يسمى (الأسلمة)، غير أن أردوغان، لم يلتفت في إجابته إلى تلك الممايزة بين المعنيين، بل فرض عليه مقام التحدّي الحضاري أن يذيب الفرق بين (الإسلام) و(الإسلامي) في هذا السياق.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.