كتابات خاصة

كيف نتعامل مع الحديث (10)

عبدالله القيسي

 الشعائر التعبدية وصلتنا بالتواتر العملي، وهو ما يسمى بالسنة العملية المتواترة، والتي نقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، وما أقدمه هنا هو المستند القرآني لتلك السنة العملية المتواترة. الشعائر التعبدية (2)
تحدثت في الحلقة الماضية عن هيئة الشعائر التعبدية وعن أركانها التي ذكرها القرآن، وفي هذه الحلقة سأستكمل ما يتعلق بموضوع الصلاة، وقد تبقى الحديث عن وقتها وعدد ركعاتها، وأكون بهذا قد أجبت على أسئلة مصدرية الشعائر التعبدية، وأعود وأكرر هنا أن الشعائر التعبدية وصلتنا بالتواتر العملي، وهو ما يسمى بالسنة العملية المتواترة، والتي نقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، وما أقدمه هنا هو المستند القرآني لتلك السنة العملية المتواترة.
أوقات الصلاة في القرآن:
يقول الله سبحانه: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} النساء: 103؛ فالصلاة إذن مكتوبة بوقت معين، والحكمة في تعيين وقت خاص بها كي يتوزع عمل المؤمن طوال يومه بين المعاش والنوم والزاد بأشكاله المختلفة ومنه زاد الصلاة، وقد حدد القرآن وقت تلك الصلوات في آيتين:
الآية الأولى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} الإسراء: 78، فهذه الآية تذكر أول الوقت وآخره لأربع صلوات، فدلوك الشمس هو وقت زوالها من كبد السماء إلى الغروب وفيه تكون صلاة الظهر، أما نهاية الوقت فهو وقت دخول الظلام الشديد بعد ذهاب الشفق الأحمر وفيه تكون صلاة العشاء، وبينهما صلاة العصر والمغرب التي تشير لها آية سورة هود، وأما صلاة الفجر فقد أفردت في الآية كما أفردت في الوقت، إذ وقتها يبدأ مع بداية بزوغ الفجر أي الصبح.
الآية الثانية: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود: 114، وهذا الآية تذكر إقامة الصلاة في طرفي النهار، وطرفا النهار هنا هما الفجر والعصر –وهو قول غالبية المفسرين -فالفجر أول النهار قبل الشروق والعصر آخر النهار قبل الغروب، وهذه الآية -كما يرى الرازي- ترجح مذهب أبي حنيفة في وقت صلاتي الفجر والعصر، ومذهبه مختلف عن الشافعي في كليهما، فأبو حنيفة يؤخر الفجر إلى بداية الصبح، وهو ما يسميه الإسفار، أما الشافعي فيقيم الفجر قبل ذلك فيما يسمونه التغليس، ورغم إطلاق الفقهاء على الوقت الذي اختاره أبو حنيفة فجرا صادقا، والوقت الذي اختاره الشافعي فجرا كاذبا، إلا أن المذهب الشافعي ولأسباب كثيرة قد انتصر في هذه المسألة رغم أن الدليل القرآني يؤيد أبا حنيفة بحسب رأي الرازي وهو فقيه شافعي. أما العصر فيؤخره أبو حنيفة عن الوقت المشهور اليوم والذي يستند على مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أقرب من دلالة الآية. وهذا ما جعل الفقيه الرازي وهو شافعي ينافح في تفسيره عن مذهب الشافعي يخالفه في هذه المسألة فيقول: ” إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل، وفي أن تأخير العصر أفضل، وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار، وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس، والزمان الثاني لغروبها، وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة، فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية، فوجب حمله على المجاز، وهو أن يكون المراد: أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار، لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى، فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين” (التفسير الكبير ج18/ص59).
أما قوله تعالى:{وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} فالزلف واحدها زلفة وهى الطائفة من أول الليل لقربها من النهار، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي أدنيت إليهم، وقرّبت لهم بحيث ينالونها. فالمراد بالزلف من الليل أوقات قريبة من الليل، وهذا ينطبق تماما على صلاة المغرب ثم يلحق بعدها العشاء باعتبار قرب وقتها من المغرب، وهو رأي أغلب المفسرين كذلك.
وبهذا تكون الآيتين قد ذكرتا خمسا من الصلوات، فصلاة عند دلوك الشمس (الظهر)، وصلاة عند غسق الليل وهي (العشاء)، وصلاة في أول النهار وهي (الفجر)، وصلاة في آخر النهار وهي (العصر)، وصلاة عند زلف الليل وهي (المغرب).
ولا يقصد بالكتاب الموقوت في قوله (كتابا موقوتا) تلك الحدية والحرفية في تحديد الوقت للصلاة، وإنما جاءت الآيات لتذكر لنا وقتا مفتوحا يبدأ من دلوك الشمس وينتهي عند غسق الليل، وفي هذا الوقت يكون زاد المسلم الروحي والاجتماعي والعلمي ولقائه بأهله وأصدقائه، بينما يكون الوقت الممتد من الفجر إلى وقت الظهيرة هو وقت المعاش والعمل والانتاج، على أن يفتتح ذلك النهار بصلاة ركعتي الفجر، ثم بعدها ينطلق إلى عمله ومعاشه حتى الظهيرة، ولذلك فإن هذا الوقت لا صلاة فيه، أما من بعد صلاة العشاء إلى قبل صلاة الفجر فإنه وقت راحة جسده للنوم، ولا بأس أن يجتزئ ساعة منه إن أراد تحقيق الدرجات العالية بالنوافل {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} الإسراء: 79، ووقت النوم ذلك يمتد إلى ثمان ساعات، لا كما يحصل اليوم من إرهاق للجسد بساعات نوم قليلة، فيأتي وقت المعاش والعمل وعمارة الأرض وهو في إرهاق وتعب، فنضعف عن عبادة أخرى أمرنا بها.
تلك المساحة المفتوحة في وقت الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل تجعل المسلم في فسحة ورخصة إن احتاج أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء، وقد ظهرت تلك الحاجة في عصرنا وزماننا بعد تعقيد الحياة وصعوبتها، وصعوبة ما يتحمله المرء كي يستطيع أن يعيش بكرامة.
عدد ركعات الصلاة:
نادرة جدا تلك الروايات التي ذكرت عدد ركعات الصلوات الخمس في كتب الحديث إذا ما قارناها بالكم الهائل من الروايات التي ذكرت النوافل في الصلاة، ومع ندرتها لا تجد رواية واحدة شملت كل الصلوات لتذكر عدد ركعاتها من الفجر إلى العشاء. والسبب بنظري يعود إلى الاكتفاء بسند السنة العملية المتواترة، والتي نقلتها الأجيال بشكل عملي حتى قبل أن تدون كتب الحديث، فالصلاة فعل، ونقل الفعل أسهل وأضمن من نقل القول، إذ احتمال التغيير والتبديل في القول كبير إذا لم يدون ويحفظ بشكل جمعي، أما الفعل فمن السهل حفظه وتناقله عبر الأجيال، ونسبة الخطأ تكاد تكون معدومة في أركان الصلاة ذاتها، ولذا لم نجد مذهبا يخالف في ذلك، فالكل مجمع على عددها وشكلها بأركانها المعروفة.
أما منشأ شرعية عدد تلك الركعات برأيي فيعود إلى تعليم جبريل للنبي عليه السلام، في اللقاء الذي تحدثت عنه سورة النجم، تلك الآيات التي تحدثت عن نزول جبريل ورؤية النبي له بصورة تختلف عن كل الصور التي أتاه فيها بالوحي، وقد نزل جبريل بتلك الصورة مرتين كما ذكرت الآية (ولقد رآه نزلة أخرى) و”أخرى” تعني الثانية التي لا ثالث لها، وإذا كان هدف النزول الأول هو إبلاغ محمد بأنه رسول من الله فإن هدف الثانية هو تعليمه الشعائر التعبدية، والتي سيتعلمها منه أصحابه ثم يتناقلها الناس من بعدهم، والغريب أن ذلك اللقاء بجبريل والتي فصلته الآيات لا تذكره كتب الحديث والسيرة وإنما تذكر لنا رواية متناقضة عن المعراج برأيي أنها كانت تطورا عن تلك القصة الحقيقية فتأسطرت وتداخلت مع ثقافات أخرى فصارت قصة المعراج التي يتناقلها الناس اليوم، وقد فصّلت نقد قصة المعراج في بحث خاص بعنوان (الإسراء والمعراج التأصيل قبل التأويل).
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى