ثمّة فرضية مركبة في مخيلات أغلبية العلمانيين تذهب إلى أنه لا تحقيق للعدالة أساساً إلا في ظل تنحية الدين جانباً، إذ لا دين للدولة أصلاً، لا الإسلام ولا سواه، لأن وجود الدين حاكماً، يعني تحيّز أتباعه لأيديولوجيتهم الدينية تجاه مخالفيهم. لاكهنوتية في الإسلام، والإسلاميون ليسوا الإسلام:
ثمّة فرضية مركبة في مخيلات أغلبية العلمانيين تذهب إلى أنه لا تحقيق للعدالة أساساً إلا في ظل تنحية الدين جانباً، إذ لا دين للدولة أصلاً، لا الإسلام ولا سواه، لأن وجود الدين حاكماً، يعني تحيّز أتباعه لأيديولوجيتهم الدينية تجاه مخالفيهم، علاوة على أن الدّين -أيَّ دين- لايمتلك بذاته نظاماً شاملاً متكاملاً قادراً على مواجهة تحديات الحياة في مجالاتها المختلفة.والحالة التركية -عندهم- اليوم تمثّل النموذج الماثل في هذا النقاش.
ولمناقشة الفرضية في شقها الأول القائل: إن الدين ليس قادراً على تحقيق العدالة بين الجميع من غير تحيّز لأتباعه، ومن ثمّ فلا مناص من اللجوء إلى منهجية (أيديولوجية) غير دينية لتساوي بين الجميع وتنصفهم كلهم؛ فيظهر أن مرددي تلك المقولة ينطلقون في فرضيتهم تلك من التسليم غير السليم أساساً بالقول: إن وجود اتجاه أو حزب أو جماعة (إسلامية) تتبنى مشروعاً حياتياً، لإصلاح أوضاع المجتمع، منطلقة من مرجعيتها الإسلامية، خاصة إن هي وصلت إلى الحكم، مما يعني احتكارها لذلك التوصيف، ومن ثم فلا يحق لهم أن يفرضوه على سواهم زاعمين أن السماء تقف مساندة لهم. كما أن القائلين بهذا الاستنتاج أو اللازم في أذهانهم وحدهم إنما يخلطون بين حكم رجال الدِّين في المفهوم الثيوقراطي الكنسي الذي عرف في أوروبا في عصور الظلام الأوروبية(Dark Ages ) هنالك، تلك التي امتدت زهاء الألف سنة، أي منذ القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي، حيث التحكّم والادّعاء بأن القس أو رجل الدين ينوب عن الله في الأرض، فيتحدث بلسانه، ويتولى القيام بمهمته، على نحو من العصمة والقداسة، بحيث تغدو المعارضة له معارضة للذات الإلهية المقدّسة وبين المفهوم الإسلامي للحكم، المنطلق من خلال نصوص القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية وتطبيقات الرسول الفعلية، وخلفائه الراشدين بوجه أخص. فالحكم في الإسلام وإن كانت مصدريته دينية إلا أنه ليس حكماً دينياً بالمعنى الكنسي المشار إليه آنفاً، بل حكم مدني ولكن ليس بالمعنى العلماني اللاديني كذلك، أي أنه حكم يستند في مرجعيته الكليّة والجزئية إلى الدين الإسلامي، غير أن من يتولى تطبيقه بشر يصيبون ويخطئون، وخطؤهم مردود عليهم، بوصفهم بشراً لا على الدّين ذاته. وهو ماتم تفصيله في كتابي الموسوم بـ(حوار في العلمانية والإسلام: العلمانية في المجتمعات الإسلامية: حلّ ممكن أم كارثة أكبر؟!) وإنما اقتضى المقام الإشارة إلى ذلك بمقتضى السياق.
تمكنت العلمانية في المجتمعات الأوروبية والولايات المتحدة، وجميع المجتمعات التابعة لهما – أيّاً اختلفت تفاصيل العلمانية في كل مجتمع منها- نتيجة تغولّها أن تصبح أشبه بالمتغيّر المستقل، نظراً لنفوذ المركزية الغربية الطاغية على كل شيء، وفي كل شيء، حتى صرنا أشبه بالمتغيّر التابع لها، ربما في كل شيء، بما في ذلك مفهومهم للدين (الكنسي) وإسقاطه حتى على دين الإسلام، ومحاولة إجبارنا على الاقتناع بذلك، رغم الفروق الجوهرية الهائلة بين طبيعة النصرانية والإسلام، إن من حيث سلامة المصدر الأصلي الأول النصوص (القرآن الكريم) من التحريف مطلقاً، أم من حيث طبيعة التعامل التلقائي المباشر وتكاليفه، مع الدّين ذاته من قبل كل مسلم، بمعزل عن أيّ اعتبار، وهو مايُعرف بفرض العين، إلا من أراد أن يصبح أحد علمائه والباحثين في شؤوونه، فمن حقه – ساعتئذ- سلوك المنهج الموصل إلى ذلك بمؤهلاته، وهو ما يطلق عليه بفرض الكفاية، دون أن يؤذن ذلك من أيّ وجه بقيام طبقة (إكليروس) في الإسلام، محتكرة لذلك الوصف وحدها، فتمنح الرتب (الدينية الكهنوتية) لمن دخل معها، وتحرم من هو خارجها أو مختلف معها.
من هنا فإذا استطاعت نخبنا (المأزومة) التحرّر المفاهيمي، والانعتاق الفكري والوجداني والسلوكي من أسر المركزية الغربية؛ فحينها سنكتشف طبيعة الذات، وحقيقة الكينونة، وخصائص الهوية المميزة، وتلك بداية الانطلاقة، والخطوة الأساس نحو فكّ العقدة الكبيرة.
إسلاميون وقوميون ووطنيون من يسبق من؟
بتعبير أكثر تفصيلاً: إن المجتمع الإسلامي حتى لو تكوَّن من شرائح مختلفة عرقياً وعقدياً وثقافياً وسياسياً فإن ذلك لا يؤذن بالتخلي عن الدّين (الإسلامي)، لأن غاية ما في الأمر أن الاتجاهات الدينية فيه – تحت أيّ عنوان – تسعى للتبريز في خدمة مجتمعاتها وأمتها من مرجعية الدين والتمحور حوله قبل أي إطار آخر. شأنها في ذلك -مع الفارق النوعي هنا- شأن الاتجاهات القومية والوطنية تلك التي ترفع شعار العروبة،أو الوطن، أو الوحدة، أو السلام، أو الحقيقة، أو الثورة، أو أيّ من العناوين ذات الصلة بالمجد، فمعلوم أن أيّاً منها لايسعى ليحتكر تلك العناوين، وما ينبني عليها، ولا يمكن مصادرة حقه في الوقت ذاته من المضي في ذلك، مادام أن غايته أن يسعى في نضاله ليبرّز فيه كذلك، بحيث يتمحور حوله، ويبدع فيه، دون أن يحتكر ذلك لنفسه، أو أن يقصي حق الآخرين فيه. وهنا تنتفي فكرة الاحتكار للوطنية ، أو القومية، أو الوحدة، أو السلام، أو الحقيقة، أو نحوها، من الاتجاهات الوطنية والقومية وسواها، كما تنتفي كذلك فكرة الاحتكار للإسلام لدى تلك الجماعات (الدينية) السلمية في اتجاهها الوسطي الغالب بمختلف عناوينها، دون الشذوذات التي تلازم كل الاتجاهات الدينية أو الوضعية (قومية ووطنية وسواها) بطبيعة الحال، ولكنها تظل الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة، كما سبقت الإشارة في سياق سابق من هذه المناقشة.
علمانية ضدّ الديمقراطية:
إن أخطر ما يحمله الاتجاه العلماني الهادف- أيّاً كانت دعاويه – إلى إلغاء الدِّين ناظماً مجتمعياً للإنسان والقيم والمعرفة والمجتمع من كل جوانبه أنه يسعى بطريقة متناقضة مع جوهر الديمقراطية للانقضاض عليها، حيث يروم إرغام مجتمعاتنا المسلمة على تبني النموذج الحضاري للآخر، في أيّ من نظمه الفكرية، أو السياسية، أو التربوية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية. ومعلوم بداهة بالتجربة المتواترة في الأوضاع الطبيعية أو شبهها أن مجتمعاتنا في أغلبيتها لاتختار سوى دينها وشريعتها، ومن يحمل ذلك المشروع، وبذلك فإن دعاة العلمانية الرافضين لتبني الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة شامل متكامل يعدّون منقلبين على الديمقراطية التي هي -في زعمهم- جوهر المشروع العلماني ولُحمته وسداه، بل متناقضين مع ذواتهم، فهم وإن برّأوا أنفسهم من تهمة الخيانة للوطن بل للأمة، من جهة سعيهم -من حيث يدركون أو لايدركون- لفرض نموذج مستعمري مجتمعاتهم وغزاتها العسكريين والثقافيين بالأمس واليوم، ومن يتواطأون على تدمير مجتمعاتها الحالية بالصراعات الإثنية والطائفية وأبرزها في سوريا والعراق ولبنان اليمن في هذه الحقبة؛ فإنهم يؤكّدون بذلك انقلابهم على المبدأ الديمقراطي الذي يظهرون الاحتفاء به في كل مناسبة، إذ إن كل مجتمعاتنا – وفي مقدّمتها تركيا اليوم- لاتريد سوى مرجعية الإسلام ونظامه وحكمه، فعن أيّ ديمقراطية يتحدثون؟!
يتبع بإذن الله..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.