دليلٌ آخر يستدل به القائلون على أن الحديث النبوي وحي وتشريع ملزم وخالد، وهو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}النساء59. إذ يعتبرون أن طاعة الله هي طاعة كتابه وطاعة رسوله هي طاعة سنته.
دليلٌ آخر يستدل به القائلون على أن الحديث النبوي وحي وتشريع ملزم وخالد، وهو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}النساء59. إذ يعتبرون أن طاعة الله هي طاعة كتابه وطاعة رسوله هي طاعة سنته.
والمتأمل في الآية لا يجد تصريحا بلفظ الكتاب أو السنة وإنما جاءت بلفظ الله والرسول، وهذا يعني أنهم استنبطوا ذلك استنباطا فقط، وإذا أردنا معرفة المقصود في هذه الآية فلنتأمل آية أخرى جاءت بعدها في نفس السورة تقرر أن طاعة الله ورسوله هي طاعة واحدة، تقول الآية:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} النساء80. فما هي طاعة الرسول التي إن تمثلناها فقد أطعنا الله؟ إنها طاعة الرسول في الرسالة، ورسالة الله هي القرآن، فمن أطاع الرسول أي فيما جاء بالرسالة فقد أطاع الله، وهذا يعني أنها طاعة واحدة لا اثنتان، وسيكون معنى الآية الأولى أطيعوا الله عبر رسالة هذا الرسول، ولما كانت هذه الطاعة لله والرسول واحدة سنجد آية أخرى تأمر فقط بطاعة الرسول دون عطفها على طاعة الله {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} النور (56) وعدم ذكر طاعة الله في الآية لا تعني أن لا نطيع كتابه كما يقولون في تفسيرهم لطاعة الله، وإنما ستكون طاعة الرسول هي ذاتها طاعة الله، فالله هو المرسل ومحمد هو الرسول والقرآن هو الرسالة، وسواء جاءت الآية بالجمع بين طاعة الله والرسول أو انفردت بطاعة الله وحده أو الرسول وحده، فإن الآية قد جعلتهما شيئا واحدا بالنسبة للمؤمنين برسالته فقالت: من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وسنجد مثال هذا في القرآن كثيرا، فمثلا قوله تعالى في توزيع الغنائم (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال (41)، ومثلها كذلك آية الفيء (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) و (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، إذ اعتبر المفسرون أن سهم الله ورسوله واحد وهو خمس الخمس في الغنائم والخمس في الفيء كما في مذهب أهل السنة، وأن ذكر “الله” في الأسهم ليس المقصود منه إثبات نصيب خاص لله، فإن الأشياء كلها ملك لله، وإنما المقصود -كما يقولون- افتتاح النص بذكر الله على سبيل التعظيم، وسهم الله ورسوله واحد هو ما يأخذه الرسول، ويحتجون لذلك برواية عند مسلم تقول “مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم” يقول القفال فقوله “مالي إلا الخمس” يدل على أن سهم الله وسهم الرسول واحد. وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد.
ومما يستدلون به في أن حديث النبي وحيا قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الجمعة:2، على أن الكتاب هو القرآن وأن الحكمة هي السنة أي الحديث، فهل استدلالهم بهذه الآية صالح أم لا؟ دعونا نتأمل آيات القرآن التي وردت فيها الحكمة.
أول ما تبادر لذهني حين قرأت استدلالهم هذا هو هذا التساؤل: إذا كنتم ترون أن القرآن قد سماها حكمة فلماذا لم تأخذوا التسمية القرآنية وذهبتم لمسميات أخرى كالسنة والحديث؟ أم أن الأجيال الأولى والتي كانت تعتبر ما تسمونه سنة (بمعناها المشهور والذي يشمل كل فعل وعمل وتقرير) اجتهادا للنبي وليس جزءا من الرسالة؟
لنذهب الآن لنتأمل معنى الحكمة في الآية، وردت الحكمة في القرآن ثلاثة عشرة مرة، أربع مرات مفردة وتسع مرات معطوفة على الكتاب، ومرة معطوفة على آيات الله ومرة معطوفة على الملك، وقد جاءت في كل موضع بما يناسب سياقه إلا أنها يجمعها بينها جامع واحد هو ما يحمله لفظ الحكمة من الأخلاق والحكم والمواعظ والاستفادة من تجارب الأولين، ولعل أكثر آية توضح معنى الحكمة هي آية الإسراء 93 (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ …) لقد سبقت هذه الآية مجموعة من الأوامر الأخلاقية والحكم والمواعظ من عدم الإشراك بالله ثم بر الوالدين ثم مراقبة سرائر النفس ثم القيام بحق ذوي القربي والمحتاجين مع عدم التبذير ثم الأمر بالإنفاق باعتدال ثم عدم قتل الأولاد خوفا من الفقر ثم عدم الاقتراب من الزنا ثم عدم قتل النفس مع الحث على العفو ثم تجنب مال اليتيم والإيفاء بالعهود ثم القسط في المكيال ثم عدم الخوض في الأمور بغير علم وأخيرا عدم الكبر والخيلاء.. ثم جاءت الآية لتقول بأن ذلك كله مما أوحاه الله لنبيه من الحكمة.
وهذا يعني ببساطة أن عطف الحكمة على الكتاب لم يكن عطف مغايرة وإنما كان من باب عطف الخاص على العام، وهو عطف يفيد التوكيد على الخاص كما يقول الأصوليون، فبعد أن ذكر العام وهو الكتاب الشامل للتشريع والأخلاق والقصص عطف بعده الخاص وهو الحكمة أي الجانب الأخلاقي من الكتاب، وهذا الأسلوب متكرر في القرآن في عدة مواضع منها قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة:89. فبعد أن ذكر الملائكة عطف بعده جبريل وميكال وهما من الملائكة فكان ذلك من باب عطف الخاص على العام.
ومما يؤيد ما ذهبت ما جاء في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) البقرة:231. فقد أفرد الضمير العائد على الكتاب والحكمة (يعظكم به) ولو كان الكتاب والحكمة شيئين منفصلين لقيل “يعظكم بهما”.
وهناك من يرى أن الكتاب في الآية هو المستوى التشريعي في القرآن والحكمة هي المستوى الإيماني والأخلاقي وهو معنى ليس ببعيد، بل هو أقرب من المعنى الأول الذي استدلوا به.
أما آية الأحزاب 24 التي استدلوا بها بنفس استدلالهم السابق فإنها دليل عليهم لا لهم، يقول تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) إذ جاء التوجيه لنساء النبي عليه السلام بأن يذكرن “ما يتلى” والتلاوة نطق مخصوص به القرآن دون سواه, وهي قرينة مهمة على أن المقصود بالحكمة القرآن ذاته كصفة له أو جزءا منه كما بينت سابقا، ولا أحد يقول اليوم أننا نتلو الأحاديث بل نقرأها..(أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) العنكبوت:51.
وأختم بما صرح به الشيخ محمد الغزالي حول هذا الموضوع في كتابه (كيف نتعامل مع القرآن ص 110) إذ يقول: “من قال إن الحكمة هي السنة النبوية فهو مخطئ.. لأنك تقرأ قوله تعالى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. آل عمران: 48. كيف تكون الحكمة هنا هي السنة النبوية والكلام هنا يقصد به عيسى ابن مريم عليه السلام..أهــ” ثم يستطرد في ذكر الآيات التي ذكرت فيها الحكمة في سياق ما أنزل على أنبياء سابقين.