كتابات خاصة

أردوغان و”العدالة” والعلمانية (9)

أ.د أحمد محمد الدغشي

قلتُ فيما سبق: إن من ثوابت الحكم الإسلامي ابتداءً، عبر وظائف الدولة في الإسلام، عدم محاباة أيّ طرف فردي كان أم جماعي، قريب كان أم بعيد، صديق كان أم خصم، موافق للمسلم في العقيدة والدين، أم مختلف معه فيهما، أو الوقوف على مسافة واحدة من الجميع وفق تعبير أردوغان. ما وظيفة الدولة في الإسلام؟ وهل تسمّى علمانية؟
قلتُ فيما سبق: إن من ثوابت الحكم الإسلامي ابتداءً، عبر وظائف الدولة في الإسلام، عدم محاباة أيّ طرف فردي كان أم جماعي، قريب كان أم بعيد، صديق كان أم خصم، موافق للمسلم في العقيدة والدين، أم مختلف معه فيهما، أو الوقوف على مسافة واحدة من الجميع وفق تعبير أردوغان، قد تبدو  تلك واحدة من الدعاوى،  أو المزاعم في نظر البعض لكن هاك هذه  الآيات – على سبيل المثال- :
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:135).
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون} (المائدة:8).
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيرا} (المائدة:58).
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما.واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لايحب من كان خواناً أثيماً. يستخفون من الناس ولايستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالايرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطاً.ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، أم من يكون عليهم وكيلاً.ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما. ومن يكسب إثما ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما} (النساء:105-113).
ولابأس من  الوقوف مع واحدة من تلك الآيات بمقطعها الطويل نسبياً، وهي الآيات الأخيرة من سورة النساء.
وهاك  بعضاً مما أورده شيخ المفسِّرين محمّد بن جرير الطبري (ت:310هـ) في سبب نزولها، فقد روى بسنده عن قتادة  قال :
“ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنـزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيماً.
 وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، يقال له: ” زيد بن السمين “.  فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف [ أي يبكي]،  فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنـزل الله في شأنه ما أنـزل، فقال: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إلى قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يعني بذلك قومه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنـزل الله في شأنه:
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصيراً (29)..
وقال في تفسيرها:
“يعني جل ثناؤه بقوله: ” إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله “،” إنا أنـزلنا إليك ” يا محمد” الكتاب “، يعني: القرآن” لتحكم بين الناس “، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم” بما أراك الله “، يعني: بما أنـزل الله إليك من كتابه” ولا تكن للخائنين خصيمًا “، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله”خصيماً ” تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه”(30).
و ينقل الشيخ محمّد رشيد رضا (ت:1354ه-1935م) في تفسير المنار عن شيخه محمد عبده(ت: 1323هـ-1905م)  الذي يصفه عادة بالأستاذ الإمام في تفسير الآيات قوله:
“وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله ، أراد أن يحذرهم مما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه ، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه ، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه؛ لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه، وذلك يفضي إلى هلاك الأمة، وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها ، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل، وغيره يهلك كل أمة تهمله ، ولذلك قال [ وذكر الآية الأولى ] (31)، أي {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما}.
وقال رضا عقب ذلك:
“…ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه ، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ، فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعد ما حتم الله التحاكم إليه وأمره بطاعته فيما يحكم ويأمر به ، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال – عز وجل – : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله أي : إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما علمك الله به من الأحكام فاحكم به ولا تكن للخائنين خصيماً ، تخاصم عنهم وتناضل دونهم ، وهم طعمة وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البريء ، فهو كقوله – تعالى – في السورة الآتية : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ( 5 : 49 ) ، فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا ، أو مسلما حنيفياً” ( 32).
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
_____________________
الهوامش والمراجع:
       (29) محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري (حققه وخرّج أحاديثه محمود محمد شاكر)، ج 9 ص 182 ، حديث رقم10412 ،د.ت، د.ط،بيروت:  دار المعارف.
 (30) المصدر السابق ج 9 ص 176.
(31) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج 5 ص 320، د.ت، د.ط. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(32) المرجع السابق،، ج 5 ص 320-321. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى