من ثوابت الحكم الإسلامي ابتداء عدم محاباة أيّ طرف فردي كان أم جماعي، قريب كان أم بعيد، صديق كان أم خصم، موافق للمسلم في العقيدة والدين، أم مختلف معه فيهما. الإخوان المسلمون والعلمانية؟!
حين سئل الرئيس أردوغان في الحوار السابق في برنامج (المقابلة) على قناة الجزيرة، عن ما وُصِف بأنه أثر سلبي تركه حديثه عن العلمانية عند زيارته لمصر في عهد الرئيس محمد مرسي في 2012م، ظهر في صورة انزعاج وسط (الإخوان المسلمين) هناك -حينذاك- عاد أردوغان ليذكّر أنه تحدّث عن مفهوم جديد للعلمانية، غير المفهوم الذي ساد تركيا طيلة العهود السابقة، وصفه بأنه (علمانية الدولة لا الأشخاص)، بحيث تقف الدولة من جميع الفرقاء السياسيين على مسافة واحدة.
أمّا الجديد في الأمر في هذا السياق -وهو بيت القصيد هنا- فهو ما أفصح عنه أردوغان – ربما- لأول مرّة إعلامياً على هذا المستوى، حين ذكر أنه بعد حديثه ذاك عشية زيارته لمصر، ثم حديثه أمام الآلاف ممن حضر محاضرته في دار الأوبرا المصرية قد زاره المرشد العام للإخوان محمّد بديع إلى الإفطار -على حدّ وصفه- وناقشه في حديثه عن العلمانية، فشرح له أردوغان ما وصفه بمفهومهم الجديد في حزب العدالة والتنمية لها.ووفقاً لرواية أردوغان فإنه ما إن انتهى من حديثه عن العلمانية، حتى قال له بديع: “إن كانت هذه العلمانية فلا يوجد ما أقوله هنا”.
وقال أردوغان : “إنه كان[ أي بديع] فهم بشكل خاطئ”، وأكّد قبوله بها، بعد شرح أردوغان. (27) كما ذكر أردوغان أيضاً في الحوار ذاته أنه كان زار أحمد سيف الإسلام حسن البنا (ت:5/2/2016م)، وهو نجل مؤسس حركة الإخوان والمرشد العام الأول) أثناء مرضه في تلك الزيارة إلى منزله في القاهرة، وبعد أن اطّلع سيف الإسلام على فكرة أردوغان وحزبه عن العلمانية: خاطبه – وفقاً لرواية أردوغان كذلك- :
” أخي الطيب: إن العلمانية التي شرحتموها أنا أوقّع عليها كما هي”!( 28).
لعلك تسألني بعد ذلك: والآن ما رأيك الشخصي بعد أن اطلعت على هذا الموقف المثير لشخصيتين بارزتين للإخوان على ذلك المستوى المرموق ؟!
قبل أن أجيبك لعله يكون من المناسب – وأرجو أن لا أفهم خطأ هنا، إنما هو المقام المقتضي للبيان- الإشارة أو التأكيد أو التذكير على أن من يناقشك في القضية شخصية مستقلة، غير منتمية انتماء عضوياً أو تنظيمياً إلى أيّ من الأطر السائدة في عالم الفكر والسياسية اليوم، بمن فيها الإخوان المسلمون، أو مايحل محلهم، لكن ذلك لايحول دون الإفادة من أيّ منها في كل ما يأخذ بأيدينا نحو التقدم والرشد، دنيا وأخرى. وقد أفدت شخصيا الكثير من بعضها، مادام في إطار المدرسة الوسطية العامة، وأدين لهم بذلك ماحييت، لكنني أمقت ذلك المسلك (السيكولوجي) الضعيف المتمثل لدى بعضهم في جاهزية تقديم المبررات لأي مسلك تقدم عليه قيادة الحركة الإسلامية بعناوينها المختلفة، في الداخل أو الخارج، أو بعض الرموز الفكرية أو السياسية ذات التأثير والقبول، حتى لو انقلبت على ماكانت تعده مسلّمات أو ثوابت، فذلك في ظني موقف صغير ، لايليق بباحث يخشى الله ويحترم نفسه وقراءه..
وبعد ذلك أحسب أنه بات من قبيل تحصيل الحاصل، بعد كل ماسقته سابقاً عن مفهومي لما يسمى بعلمانية حزب العدالة التركي أن تأتي إجابتي على السؤال غير مختلفة النتيجة الكليّة مع ما توصل إليه الأستاذ بديع والأستاذ البنا، أو سواهما، كبر المقام أم صغر، بمعزل عن تفاصيل ذلك القبول وصيغه، وما يترتب عليه. ومع التأكيد على كل ماذكرته آنفاً من ملابسات من مختلف الوجوه بالنسبة للنموذج التركي؛ فلست أرى تعارضاً جوهرياً بين واحدة من أبرز وظائف الدولة في الإسلام وبين ما قاله أردوغان عن ما يصفه بـ(العلمانية) بمفهومها الجديد، الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية من كون علمانية الدولة لديهم، تعني أن تقف الدولة موقفاً واحداً، أو على مسافة واحدة، بلا تحيّز، لأيّ من فرقاء السياسة والفكر.
وهل في جوهر حديثه هذا ما يتعارض مع موقف النظام السياسي الإسلامي، من فرقاء العمل السياسي والفكري في المجتمع الإسلامي، الذي يؤمن به التيار الوسطي الغالب في العالم الإسلامي؟
لا يبدو ذلك، حيث إن من ثوابت الحكم الإسلامي ابتداء عدم محاباة أيّ طرف فردي كان أم جماعي، قريب كان أم بعيد، صديق كان أم خصم، موافق للمسلم في العقيدة والدين، أم مختلف معه فيهما، وذلك ما عبّر عنه أردوغان بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع. ولكن قد يسارع إلى معارضة ذلك بعض ذوي التشدّد والمنزع الإقصائي من الإسلاميين، سواء أولئك الذين أعلنوا تبنيهم الصريح لمنهج العنف (المسلّح)، أم من ممن لايتبنى ذلك ضرورة، لكنه بسبب التنشئة البيئية والفكرية (المدرسية)، أو سواهما يحمل نفسية الإقصاء، والدعوة إلى احتكار فهم الإسلام في جماعة (مدرسية) محدودة العدد والرموز العلمية والفكرية ذات الوزن، كما التأثير.
أعني أن دعاة هذا الاتجاه هم ممن غلب على بعضهم ابتداء الموقف السلبي تجاه مشروعية التعددية في الإسلام حتى للأحزاب والجماعات الإسلامية، كما لايؤمنون في الغالب بالعملية الشوروية بمفهومها الإسلامي المنضبط، ناهيك عن ملابسات العملية الديمقراطية. وهؤلاء -في واقع الأمر- لايمثلون سوى أنفسهم أو جماعاتهم (المدرسية) تلك، فهل يقبل علمياً وأخلاقياً أن يُستشهد بأمثال هؤلاء في جانب الحقوق والحرّيات، ويترك التيار الوسطي الغالب من الإسلاميين أو جمهور الأمة، للاحتجاج على معارضة ذلك المفهوم عن واحدة من أبرز وظائف الدولة في الإسلام؟! ومعلوم أنه لاتزال هناك رؤى خاصة في كل اتجاه إنساني إسلامي كان أم علماني، أم غير ذلك، تخالف السائد الغالب وسط هذا الاتجاه أم ذاك، لكن تظل العبرة دائما بغلبة الاتجاه (آمل مراجعة ملحق الكتاب عن دراسة: من يمثل الإسلام؟).
قد تردّ عليّ ربما بقولك: هذا جيّد ، ولكن حديثك حتى الآن عن ما وصفته بواحدة من أبرز وظائف الدولة في الإسلام، لايزيد -حتى الآن- عن دعوى من الدعاوى، إذ هو مرسل، غير مدلّل عليه بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة. وذلك صحيح، ولكنني أعدك بمناقشة ذلك في ضوء الدليل العلمي في المقال القادم -بعون الله -تعالى- .
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
————————-
الهوامش والمراجع:
(27) برنامج، المقابلة، ج 1، المرجع السابق.
(28) المرجع نفسه.