آراء ومواقف

حبَّات الرمال تبكي أطفال اليمن

علا علي فهمي

كالصرخة اليتيمة التي لا تُسمع، وزفرة العين التي لا تُرى، يُقتلعون من جذور الطفولة عُنوة، ويُلقى بهم على أسِرَّة الموت في مشاهد تُدمي القلوب ألماً وحسرةً، كأغصان خضراء يافعة، تم اقتلاعها في أول مهدها، حينما شبَّت على قُبح الدنيا. كالصرخة اليتيمة التي لا تُسمع، وزفرة العين التي لا تُرى، يُقتلعون من جذور الطفولة عُنوة، ويُلقى بهم على أسِرَّة الموت في مشاهد تُدمي القلوب ألماً وحسرةً، كأغصان خضراء يافعة، تم اقتلاعها في أول مهدها، حينما شبَّت على قُبح الدنيا؛ لتغفو عيون أطفال العالم العربي والإسلامي في التراب الذي يحتضن ضلوعهم الصغيرة بحنان، لم يجدوه في أطلال الإنسانية، وستائرها التي تهتكت ففضحت مسرحيات العالم الهزلية التي يمارسها العالم بِرُمَّته، والتي لم تعد فصولها الدموية تُقنع أحداً.
إنهم أطفال اليمن الحزين، الذين سيُلاحقنا عار خِذلانهم على مر التاريخ، تنظر إلى صورهم فتشعر وكأن العالم يتوقف من حولك، وكأننا نتعرَّى ونتجرد من كل معاني الرحمة والإنسانية؛ لتقع عيناك ساكنة صامتة عاجزة عن البكاء، تُحدق بأجسادهم المُتهالكة، وأوصالهم المُرتعشة، وعظامهم الواهنة البارزة، التي بالكاد تكسوها جلودهم المُزركشة بعروقهم النافرة، تراهم يُحملقون أمامهم في صمتٍ مَهيب، وكأنهم يُعاتبون العالم بنظراتهم الشاردة المُستغيثة، وكأن لسان حالهم يقول: “أيها العالم القبيح المُوحش ألم تفرغ من كؤوس دمائنا الطاهرة بعد؟!”.
لتعلن منظمة اليونيسيف أن الوضع أصبح كارثياً في اليمن، وأن مليونين و200 ألف طفل يمني يعانون من سوء التغذية الحاد، ويحتاجون إلى العناية العاجلة، وأن محافظة صعدة تشهد أعلى معدلات التقزم بين الأطفال على مستوى العالم، ويعاني ثمانية أطفال من كل عشرة أطفال من سوء التغذية المُزمن، دون أدنى تدخل من قِبل مجلس الأمن والأمم المتحدة، لرفع المعاناة الإنسانية عن تلك الأرواح التي تُبحر في بحر الظلمات من ويلات الحرب والجوع.
أطفال اليمن الذين يعانون المُر والعلقم، ويمزقون أرواحنا المُتعبة والمُثقلة بقلة الحيلة والذل والهوان، وينتزعون بنعومة أظافرهم الهشة ماء وجوهنا العارية، ويدفعون براءتهم وفِطرتهم النقية ثمناً غالياً لما ترتكبه قوى الشر، من قوات “عبد الملك الحوثي” وميليشياته المُسلحة وجماعة داعش الدموية والميليشيات الطائفية الإيرانية، من جرائم ومجازر إنسانية في حق أطفال اليمن، مُدعي الدين والإسلام ظلماً وزوراً وبهتاناً، الذين يسعون في الأرض فساداً بلون الدم القاني ورائحة الموت؛ ليتركوا اليمن مُهلهلة ومُقسمة، ويحولوا حقولها ورؤوس جبالها الخضراء إلى مقابر جماعية مُتراصة، وصحراء قاحلة تُلوّح برايات الموت السوداء، وتكتظ بألغام النزاعات والحقد والشر، كأرض البرتقال الحزين التي يأكل قلبها العجز واليأس والخذلان.
الجهل سلاح الحوثي الفتَّاك:
لننتقل إلى فاجعة أخرى تُمارس في حق أطفال اليمن الحزين، وهي تجنيد المئات من الأطفال، وجعلهم كبش فداء لويلات الحرب التي ستضع أوزارها على العالم أجمع؛ لتعتصر قلوبنا دماً يسري بلا توقف، على حال أطفال عالمنا العربي والإسلامي، الذين يتعرضون إلى أهوال من العذاب والألم والفُقدان والوحشة، بين ويلات الحروب والقصف والطائفية، والدمار والهلاك تارة، وبين أنياب الجوع والمرض تارة أخرى؛ لتبقى براثن الجهل تنهش عقول أطفالنا، وتسلبهم زهرة أعمارهم، وتُمزق أجنحة حريتهم، وتنتزع رحيق طفولتهم، وتحرق فراشات أحلامهم الملونة.
ويبقى السؤال قائماً: كيف يحلو لحكامنا النوم، وأطفال سوريا ينحتون بدمائهم على جباهنا تقاسيم الخزي والعار، وأطفال اليمن يموتون جوعاً؟
أي عار تصفه الحروف والكلمات، أن يموت طفل يمني كل عشر دقائق، ضحية الجوع في بلاد المسلمين، التي قال عنها الخليفة عُمر بن عبد العزيز: “انثروا القمح على رؤوس الجبال؛ لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين”، ولكننا يا عُمر تركنا أطفالنا فريسة ووقوداً لأسراب الغربان، ونثرنا دماءهم وأشلاءهم ورُفات أحلامهم على رمال أوطانهم الباكية بكل دمٍ بارد، وحصدنا الأشواك في أعماقنا حتى اعتدنا عليها، وصارت جزءاً منا.
من أجل ماذا يا حكام العرب والمسلمين؟ من أجل ماذا تتنازعون وتتصارعون وتنقسمون؟ بين المصالح والمكايدات السياسية، من أجل ماذا والعار يُلاحقنا حاضراً ومستقبلاً، أحياءً وأمواتاً؟! من أجل ماذا نترك أطفال اليمن فريسة كلُقمة العيش المُستساغة للجوع والمرض، بين الإهمال الطبي، وقلة المراكز الطبية التي تفتقر إلى أدنى مقومات الرعاية الصحية؛ ليموت أطفالنا بسبب الجوع الدامي، وسوء التغذية؟! أي عقل يمكنه أن يتصور ويستوعب حجم الألم والمعاناة أن أطفال بلدٍ عربي يموتون بمعدل طفل كل عشر دقائق ضحية؟!
إنه الوجع المُرتل في محراب الوطن العربي، والسواد القائم في مآتم الضمائر، حتى تأتي لحظة القصاص ولو بعد حين، ممن شربوا دماء الآلاف، بل الملايين من الضحايا الأبرياء، والتهموا لحومهم المعجونة بآهات وعويل ذويهم، في صحون من ذهب وفضة.
فلنرسم على جداريات العالم بدماء ملايين الأطفال وأوصالهم المُمزقة، وصراخهم المدوي المُترامي في عنان السماء كالغسق الأحمر الذي يخُط خطوطه عند وداع شمس النهار؛ لتفضح عراء الإنسانية، وليل الرحمة البهيم، فربما تُحرّك تلك الصورة الدامية ضمائرهم، وتخترق أعينهم الخائنة، وتُخيم بشاعتها على وجوههم الشاحبة، رغماً عن كل مساحيق التجميل التي يُبيضون بها وجوههم وأحاديثهم الكاذبة.
إن حبَّات الرمال المُخضبة بالدماء المسفوحة تبكي أطفال فلسطين والعراق وسوريا واليمن وبورما؛ لتُعانق سنابل القمح الذهبية وسحابات السماء القطنية، أرواحهم الصاعدة للسماء التي تبكي نظرتهم الأخيرة، فلا جوع ولا خوف بعد الآن يا صغاري.
ولكن عزاءنا الوحيد أنهم رحلوا وأننا راحلون، فسلاماً إلى ربيع الطفولة الموؤودة، ودفاتر الأحلام الوردية، ونواصي الآمال الحزينة، وخصلات الشعر المجدولة، وأناشيد الوطن المرثية، وصناديق الألعاب والدُّمى المنثورة تحت حُطام الحياة، والحصالات الخشبية المُخبأة، وفتافيت الخبز المعجونة بدماء الطاهرين، سلاماً لمن غادروا أجسادهم الفانية، إلى فجاج من نورٍ سرمدي، إلى بشراهم بروح وريحان وجنات نعيم، فظلم الدنيا مهما طال ساعة، ونصر الآخرة خُطاه خالدة، ونعيمه لا يفنى، فطوبى لهؤلاء الذين حفروا بدمائهم الحُرة كلماتهم على أبواب برزخ الحرية.

*نقلاً عن (هافينغتون بوست عربي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى