أسئلة كثيرة طرحتها في المقالات السابقة حول مسألة ما يصدر عن النبي عليه السلام خارج القرآن، هل هو اجتهاد منه أم وحيا إلهيا؟ وقد طرحت كثيرا من التناقضات والإشكالات التي ستنتج عن قولنا بأن قوله وفعله خارج القرآن وحيا، فما هي المنهجية الدقيقة في التعامل في كل ما صدر عن النبي عليه السلام؟ مقامات النبي:
أسئلة كثيرة طرحتها في المقالات السابقة حول مسألة ما يصدر عن النبي عليه السلام خارج القرآن، هل هو اجتهاد منه أم وحيا إلهيا؟ وقد طرحت كثيرا من التناقضات والإشكالات التي ستنتج عن قولنا بأن قوله وفعله خارج القرآن وحيا، فما هي المنهجية الدقيقة في التعامل في كل ما صدر عن النبي عليه السلام؟
كما وعدت من قبل بأني هنا سأكتفي بكتابة الخلاصات لا بالتأصيل التفصيلي لكل مسألة، لأن ذلك لا يكون في هذا المساحة من المقالات، ولكن من طبيعة الخلاصة المستندة إلى تأصيل علمي أنها تكون شاملة في الإجابات على الأسئلة التي طرحت، أو أن لديها قدرة تفسيرية أعلى من التفسيرات السابقة وهذا ما ستجدونه في هذه الخلاصات.
إن أقرب الإجابات وأشملها وأدقها هي القول بمقامات النبي، وهي ليست فكرة جديدة، فكثير من أصوليي السنة والشيعة قالوا بها، ولكنهم لم يحددوا بدقة أين الوحي من غيره في تلك المقامات، وأين الملزم من غيره، وما مقدار كل إلزام، ولذا سيكون الاختلاف معهم في تحديد حدود كل مقام بحيث لا يختلط الوحي بغيره، وبحيث تتضح درجة الإلزام في كل مقام.
كثيرة هي الكتابات التي طرحت فكرة مقامات النبي ابتداء بالقرافي والشاطبي مرورا بابن عاشور وانتهاء بسعدالدين العثماني وعصام القيسي، مع فارق الدقة عند الأخير، وهذا ما سيجعلني أبني على ما طرحه، وأفترق معه في بعض التفاصيل، مستندا على النص القرآني في استنباط مقامات النبي.
للنبي عليه السلام مقامات ثلاثة: مقام الرسول ومقام ولي الأمر ومقام البشر، والاختلاف بين تلك المقامات الثلاثة يكون في درجة الإلزام وديمومتها، أما المقام الأول (الرسول) فهو ملزم لكل مؤمن بالرسالة في كل زمان ومكان، وأما المقام الثاني (ولي الأمر) فهو ملزم لمن عاش معه في زمنه فقط، وأما المقام الثالث (البشر ) فليس ملزما لأي أحد سواء في زمنه أو غير زمنه.
أما مقام الرسول فهو محصور بالرسالة فقط، أي القرآن الكريم، فهو وحده الوحي، وهو وحده الملزم لكل مؤمن في كل زمان وكل مكان، وكل قول للنبي عليه السلام خارج القرآن فهو ليس وحيا ملزما، وإنما هو اجتهاد منه، قد ينتمي إلى المقام الثاني أو الثالث، وبهذا الوضوح نضمن عدم اختلاط الوحي بغيره، وبطريقة أخرى نضمن عدم اختلاط الدين بغيره، ويندرج تحت هذا المقام مقام النبوة، فالنبوة وحي إلهامي جاء ليرشد النبي في تبليغ رسالته بما يعصمه من أي حدث قد يفقده حياته قبل إتمام الرسالة، ولكن هذا الوحي لا يدون ولا يصير تشريعيا، وقد أشار إليه القرآن في بضع آيات، فهو يأتي تابعا لمقام الرسالة، التي تقتضي العصمة للرسول حتى يتم رسالته.
وأما مقام ولي الأمر فهي أقوال النبي وأفعاله في إطار ولايته لأمر المسلمين، فالقرآن الكريم نص على طاعة أولي الأمر، والنبي كان ولي أمر تلك الجماعة المؤمنة، ويندرج تحت هذا المقام مقام القاضي ومقام المشرع، أما مقام القاضي فهو المعني بفض الخصومات بين جماعة المؤمنين، وقد بينت الآيات أن مقامه ذاك مقام اجتهادي قد يصيب فيه وقد يخطئ، وإنما عليه أن يجتهد في تحري الحق ليحكم بينهم بالعدل، وأما مقام المشرع فهو مقام مهم في تنظيم المجتمع، وهو إحدى لوازم وجود المباح، لأن المباح لا يمارس إلا مقيدا، لذا كان لابد أن يقيد المجتمع بعض المباحات لتنتظم حياة الناس العامة، وهذا المقام ربما هو أكثر المقامات خفاء عند من درس مقامات النبي، ومنه جاء الاختلاف في كون النبي مشرعا بجوار القرآن أم لا، وفي اعتقادي أنه كان يشرع في إطار تقييد المباح، وهذا ما جعل بعض الفقهاء يقولون بأن من حق ولي الأمر أن يقيد المباح، فالنبي كان يشرع فعلا، ولكن تشريعاته تندرج ضمن مقام ولي الأمر لا ضمن مقام الرسول، وكثير من الآيات كانت تحيل التفصيل لولي الأمر أو للعرف ليختاروا الأنسب لهم في زمنهم ومكانهم.
ولو تأملنا في هذا المقام فإننا سنجد أن السلطة السياسية اليوم بأقسامها الثلاثة هي من تتولى ذلك، السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، فالسلطات الثلاث هي الملزمة لنا اليوم، لأن لكل زمان ومكان سلطته، ومن تلك السلطات الملزمة السلطة التشريعية، التي تشرع للناس وتقيد المباح وتضمن لهم تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فتشريعاتها ليست خالدة ودائمة، كما أنها ليست شركا في التشريع كما يقول ضيقو الأفق، لأنهم ورثوا هذا التشريع من مقام ولي الأمر، وهو مقام تتغير فيه سلطة الإلزام إلى كل ولي أمر في كل زمان ومكان.
أما مقام البشر فيندرج فيه أقوال النبي وأفعاله في ما عدا مقامي الرسول وولي الأمر، فاختياراته في البيع والشراء والأكل والشرب واللبس والنوم ..الخ كلها تندرج في هذا المقام. وهذا المقام ليس ملزما لا لأهل زمنه ولا لمن جاء بعدهم، وإنما اقتضت المبالغة عند قوم متأخرين أن يجعلوا من ذلك سننا فألغوا بذلك بشريته التي كررها القرآن مرارا.
ومن الآيات التي أشارت لتلك المقامات الثلاثة (الرسول – ولي الأمر – البشر):
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء59.الآية تشير لمقامين، مقام الرسول (وأطيعوا الرسول) ومقام ولي الأمر (وأولي الأمر منكم) والأمر كما أوضحت في مقالات سابقة هو الشأن السياسي في الدنيا، يقول تعالى” {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }الشورى (38). {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} آل عمران159.
فالآية الأولى جعلت الأمر شورى بين أفراد المجتمع وهي تشير بذلك إلى أنه أمر دنيوي لا ديني, أما الآية الثانية فهي تأمر النبي بأن يشاور المؤمنين في الأمر, وهي إشارة واضحة بأنه ولي أمرهم وأن ما سيشاورهم فيه هو أمر حياتهم الدنيوي خارج الرسالة.
وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) الكهف 110، الآية تشير لمقامين، مقام البشر العادي (قل إنما أنا بشر مثلكم) ومقام الوحي أي الرسول (يوحى إلي) .
فإذا ما تعاملنا مع كل ما يصدر عن النبي وفق هذا التقسيم الثلاثي فإننا ستخرج بإجابة شافية عن تلك التساؤلات والإشكالات والتناقضات التي ذكرتها من قبل، فحديث النبي لم يحفظ لأنه ليس وحيا تشريعيا خالدا، وإنما هو جزء من سيرته التي نتعامل معها كما نتعامل مع التاريخ، نأخذ منه أو نرد وفق معايير محددة، فإذا ما قبلنا شيئا أو رددناه فلن نقع في إشكالية رفض الوحي كما يقع فيه من يؤمن بأن كل أقواله وحيا.
ونصوص القرآن تؤكد بأن رسالة النبي كانت القرآن وأن القرآن كان مدار الوحي والبلاغ والإنذار والتبشير والتصديق والتكذيب ..الخ، وفي الحلقات القادمة سأمر سريعا على بعض الآيات التي تؤكد ذلك، كما أني سأتوقف عند تلك الآيات التي يزعم الفريق الآخر أنها دليل على أن قول النبي خارج القرآن كان من الوحي وأنه ملزم وخالد كخلود رسالة القرآن.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.