والواقع أن من قد يردّد مثل هذه المقولة كأنما يطالبنا إلزاماً ابتداء بتعطيل ذاكرتنا الجماعية القريبة لتاريخ الانقلابات في تركيا (العلمانية) ابتداء، تلك التي سُجّلت كلها علمانية بامتياز، وليس من بينها انقلاب واحد، خارج هذه الدائرة. بين علمانية الانقلاب وإسلاميته:
ثمة وجهة نظر جديرة بالنقاش في هذه الحلقة، وهي تلك التي قد تعترض التحليل السابق عن مَن وقف وراء انقلاب 15/7/2016م وسانده من الخارج، وقد تأكد أنه الغرب (العلماني)، لكن ثمة من قد يقول بأن هذا الكلام يغدو سليماً لو لم تكن ثمة جهة إسلامية هي (جماعة الخدمة)، أو فتح الله كولن، وهي جماعة إسلامية لا علمانية، وقفت وراء الانقلاب الفاشل وحاولت تنفيذه.
والواقع أن من قد يردّد مثل هذه المقولة كأنما يطالبنا إلزاماً ابتداء بتعطيل ذاكرتنا الجماعية القريبة لتاريخ الانقلابات في تركيا (العلمانية) ابتداء، تلك التي سُجّلت كلها علمانية بامتياز، وليس من بينها انقلاب واحد، خارج هذه الدائرة.
وعلى كل حال فحتى لو عددنا الاتهام الحكومي لجماعة الخدمة هو الحقيقة النهائية، مع أنها – في تقديري حتى الآن- لاتزيد عن كونها الفرضية الأكثر رجحاناً من بين فرضيات أخرى قائمة؛ فقد غدا من شبه الثابت الآن، سواء وفقاً لرواية حكومة العدالة والتنمية، أم لباحثين ومتابعين آخرين أن جماعة الخدمة أو (فتح الله كولن) شاركت في انقلاب الزعيم العلماني السابق الرئيس التركي كنعان إيفرين في 1980م بذريعة حماية المبادئ العلمانية في وجه ما بدأ يهدّد الجمهورية التركية من تصاعد في ظاهرة الاتجاه الإسلامي. ويرى مراقبون أن ذلك الانقلاب كان الأكثر دموية في تاريخ الانقلابات التركية، وكان مدعوماً مباشرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا سلّمنا بشهادة لطيف أردوغان الذي لازم العضوية في تلك الجماعة لمدة 40 سنة، حتى غدا فيها نائباً لرئيسها فتح الله كولن ومن أقرب المقرّبين إليه، قبل أن يختلف معه بعد ذلك؛ فإن 90% من الجنرالات الحاليين في الجيش التركي من المنتمين لما يسمى هناك بالكيان الموازي، أي جماعة الخدمة (17) ، كما أن هذه الجماعة لم تكن تلتفت- بوصفها جماعة إسلامية- لمعايير الحلال والحرام، حتى ليقال إن بعضهم لم يكن يتردّد في معاقرة الخمرة، أو ترك الصلاة، ونساؤهم لم يكن يلتفتن إلى تعاليم الإسلام المتعلقة بالحجاب، ونحو ذلك (18).
وبحسب تلك الشهادة كذلك فإن ذلك يأتي بتوجيه مباشر من رئيسها محمد فتح الله كولن، بغية مضيّ الجماعة في مسلسل السيطرة على مفاصل الدولة وأجهزتها بكل مستوياتها (19)، دون التفات إلى خلفيتها الإسلامية، مع أنه تأكّد اليوم – حتى بمعزل عن الانقلاب- أن (الخدمة) جماعة إسلامية، من ذلك الصنف الذي باتت تشجعه دوائر غربية كبرى، وتتبناه، وتدفع به إلى موقع التأثير على جوهر القرار السياسي في البلدان العربية والإسلامية، وسخرته لمواجهة الجماعات التي تصفها بـ(الراديكالية) أو تيار (الإسلام السياسي)، وذللت له من الإمكانات الهائلة بما في ذلك إمكانات دول في المنطقة، اشتهرت بمعاداتها ذلك التيّار، ما يساعد على سحب البساط من تحت أقدام خصمها الإسلامي (المشار إليه) ، في مقابل تبنيها ما غدا يوصف بشبكة (التصوّف السياسي)، وهي الشبكة التي تكشفت أوراقها، وتفككت خيوط لعبتها، شيئاً فشيئاً، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م – بوجه أخص- ولكنها ربما بلغت الذروة بعد ظهور ما عرف بثورات الربيع العربي في 2011م، وتعمّدت أكثر بمؤتمر جروزني في الشيشان في الفترة من 22-24 ذو القعدة 1437هـ-25-27 أغسطس/آب 2016م، بعنوان من هم أهل السنّة والجماعة
ويتأكّد ذلك من كون جماعة الخدمة لم تتبن في أدبياتها، أو فعالياتها وأنشطتها المختلفة داخل تركيا أو خارجها، في أيّ مرحلة من مراحلها، وعبر أيٍّ من مؤسساتها مايشي من قريب أو بعيد بتبنيها غير المباشر، أو حتى تأييدها الضمني لمايمكن وصفه باتجاه سياسي نابع من مرجعيتها الإسلامية، على نحو ما يمكن تلمسه لدى العدالة والتنمية، مع أن التربص بهذه الأخيرة واضح سافر.
ولذلك فشأن (الخدمة) شأن جماعات (التصوف السياسي)، التي لاتولي هذا الجانب أيّ اهتمام، بمعنى السعي على نحو مقصود أو موجّه لتحكيم منظومة الإسلام الشاملة، أي التشريعات الإسلامية وبقية النظم المتصلة بالإنسان والقيم والمعرفة والمجتمع، بل لاتعدو اهتماماتها الجانب الروحي والقيمي للخلاص الفردي، محذّرة من التدخل في ما تصفه بـ(السياسية)، وفق المعنى السابق، وتصف ذلك بأنه تهافت على الدنيا، وتسييس للإسلام لأغراض حزبية وشخصية، على حين أنها لاتتورع أن تمثل جماعات وظيفية (سياسية)، لدى الأنظمة السياسية التي ترعى شبكتهم وهي المتسمة بالقهر والعسف والطغيان، خاصة ضدّ ما تصفه بتيار (الإسلام السياسي).
زد على ذلك أن لانقلاب 15/7/2016م في تركيا صلة مباشرة مقطوعاً بها بدوائر استخبارية غربية كبرى، ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية- كما سبق التدليل-. وحين يثبت ذلك الارتباط بين الخدمة وتلك الدوائر الأجنبية -علاوة على ماسبق- يتأكّد أن لاصلة البتة بين هذه الجماعة والتيار الإسلامي الذي يصفونه بـ(السياسي)، إذ لايمكن للغرب أن يكون داعماً لجماعات (الإسلام السياسي)، وهو مصدر العلمانية الأول، ولطالما أقام مؤسسات ومراكز بحثية كبرى، وأشهرها في هذا السياق مؤسسة (راند) التابعة للقوات الجويّة الأمريكية، لرصد الجماعات الإسلامية وتصنيفها، والدعوة – من ثمّ- لدعم الجماعات الصوفية ونحوها، وإعادة ما تصفه ببناء شبكة (الإسلام المعتدل).
ومن ثم فيمكن القول بأن جماعة (الخدمة) هي جماعة إن لم تكن علمانية بالمعنى المباشر، فهي تتبنى ذلك المشروع، وفقاً لمسلكها منذ انقلاب كنعان إيفرين 1980م – على الأقل- وانخراطها في مفاصل الدولة، وعدم التفات بعض عناصرها إلى المعايير الإسلامية الشرعية في السلوك المقطوع بحرمته كالخمرة، ونحوها، والقيام بالفرائض المقطوع بوجوبها كالصلاة ونحوها.
وبناء على ذلك فلا يمكن وصفها بالجماعة الإسلامية بالمعنى الموازي لجماعة العدالة والتنمية، تلك التي لاتتردد هذه الأخيرة ورموزها ذات الوزن في إعلان مرجعيتها الإسلامية الشاملة، ولا تفرّط بالفرائض الأساسية، والقيم الكبرى والسلوكيات المحدّدة لسمات الشخصية المسلمة، ناهيك عن أن تركيا في عهد العدالة والتنمية غدت ملاذاً للمظلومين (السياسيين خاصة)، وضحايا عنف الأنظمة الاستبدادية، من مختلف الأقطار، وأغلبهم من الأفراد أو الجماعات التي توصف بـتبنيها ما يسمّى (الإسلام السياسي).
وصفوة القول: إن انقلاب 15يوليو/تموز2016م -على فرض قطعية الحكم بتبني جماعة الخدمة له- ذو شكل إسلامي خارجي، لكنه في جوهره ولحمته وسداه مدعوم بقوة من مصدر العلمانية الأول في الغرب، وليس من أيّ جماعة إسلامية (حركية)، أو قوّة إسلامية (سياسية)، بأيّ معنى، ومن ثم فهو صناعة علمانية بامتياز (غربي).
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
_____________________
الهوامش والمراجع:
(17) لطيف أردوغان، حوار مع قناة الجزيرة، برنامج بلا حدود، جزءان ( حوار: أحمد منصور)، 17،10/8/2016م.
(18) المرجع السابق.
(19) المرجع نفسه.