إنني في هذه السلسلة أكتفي بطرح الخلاصات التي وصلت إليها من خلال البحث والتفكير والتأمل لأكثر من عقد من الزمن، أما التفصيل في هذه القضايا فلا تكفيه بضع مقالات هنا، وأرى في هذه الخلاصات كفاية للقارئ العادي والمتخصص ممن تجرد للحقيقة بلا تعصب أو تقليد. إنني في هذه السلسلة أكتفي بطرح الخلاصات التي وصلت إليها من خلال البحث والتفكير والتأمل لأكثر من عقد من الزمن، أما التفصيل في هذه القضايا فلا تكفيه بضع مقالات هنا، وأرى في هذه الخلاصات كفاية للقارئ العادي والمتخصص ممن تجرد للحقيقة بلا تعصب أو تقليد.
لازالت الأسئلة مستمرة حول ما طرحته عن أسئلة الحديث عند أولئك الذين اعتبروه وحيا، وهي أسئلة ترصد التناقضات التي وقعوا فيها، ومنها أنهم يعتبرونه وحيا ثم يردون بعضه ويقبلون بعضه الآخر؟ فيحكمون على هذا بالصحة وعلى ذاك بالضعف! فهل يوجد وحي صحيح ووحي ضعيف؟ وهل ينفع أن نقول مع وحي القرآن كذلك؟ وأنا هنا أتحدث عن اختلافهم في الثبوت لا في الدلالة، إذ يسوغ أن يختلف الناس في تفسير نص ما، ولكن أن يختلفوا في ثبوته فهذا يعني أن الاختلاف خطير إذ قد يدخل في الدين ما ليس منه، أو يخرج منه ما هو منه، وكل ذلك يعود لاختيار المحدث بالتصحيح أو التضعيف.
وحتى أحكامهم تلك لن تجد فيها اتفاقا ! فما هو صحيح عند قوم ستجده ضعيفا عند آخرين، وما هو ضعيف عند الأول صحيح عند الثاني ! هذا على مستوى الأفراد داخل المذهب الواحد كالمذهب السني مثلا، أما إذا أردت الخروج إلى مستوى المذاهب الكبيرة والطوائف فستجد ردا لأحاديث بالجملة لا بالتجزئة، وكل مذهب له كتبه الخاصة بأقوال النبي، حتى ليخيل إليك أن هناك نسخا متعددة من النبي فصلتها المذاهب على مقاسها، فنبي الشيعة غير نبي السنة غير نبي الصوفية غير نبي الأباضية …الخ، وكلٌ منهم له كتبه المعتمدة في الحديث المنسوب للنبي! فهل تعدد الوحي أم تشظى؟ وهل نؤمن ببعض الوحي ونكفر ببعض؟ وإذا كفرت ورفضت طائفة ما لأحاديث غيرها فهل تخرج من الدين كونها رفضت ذلك الوحي الذي عند الطائفة الأخرى ؟ إنهم لا يعون جيدا ما الذي ينبني على قولهم بأن الحديث من الوحي!!
إن كل فرقة من هؤلاء لا يعتمدون في الثبوت كتابا واحدا في الحديث إلى نهايته، إذ ستجد خلافا عندهم في أهم الكتب وأكثرها استيثاقا فكيف بما هو أقل منها، وسنجد كل فقيه أو محدث يرفض عدة أحاديث في الكتاب الأساس فكيف بما هو دونه، و لو سألت هؤلاء جميعا ماذا لو أسقطنا أو شككنا في آية واحدة من القرآن الكريم؟ سيجيبك الجميع أن ذلك لا يمكن لأنك بهذا ستشكك في القرآن كله وستسقط قدسيته إذا أسقطت ولو جزءا بسيطا منه!! فلماذا إذن تسقطون أحاديث من تلك الكتب ثم تقدسونها؟ وهل يوجد مسلم واحد منذ كتب البخاري ومسلم كتابيهما إلا ورد بعض أحاديثهما شاء أم أبى، ففقهاء المذاهب السنية الأربعة ردوا روايات اعتمدها البخاري ومسلم فيما بعد وبقية الفقهاء مثلهم، فكيف إذن تشككون في بعضها ثم تقدسون ما تبقى؟ وإذا لم تكن تلك الكتب مقدسة فلماذا تلزمون بها الناس وتكفرون من أنكرها؟! وقل مثل ذلك وأكثر على كتب الطوائف الأخرى.
ومن الأسئلة التي تدور بالذهن حول الحديث هو أنك إذا تأملتها لا تجد روايات كثيرة لأولئك الذين آمنوا بالنبي من أول دعوته؟ بينما تجدها تتكاثر مع من أسلم في آخر عهد النبوة ومن من كانوا صغارا في زمن النبي؟ فإذا كانت الروايات وحيا فهل أحجم كبار الصحابة عن رواية الوحي؟ ولماذا كانت روايات أبي هريرة وابن عباس وأنس بن مالك أكثر من روايات أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأبوعبيدة ممن كان مع النبي عليه السلام من أول سنين دعوته؟ ألا يفترض أن تكثر رواية من عاش معه كثيرا وتقل رواية من عاش معه قليلا؟ فلماذا حدث العكس؟
وإذا كان الحديث وحيا فلماذا أجاز المحدثون نقله بالمعنى لا باللفظ؟ وهل يجوز نقل الوحي بالمعنى؟ هل يجوز أن ننقل القرآن بمعناه لا لفظه؟ وهل يسمى قرآنا بعد ذلك إن نقلناه بالمعنى؟
إن كتب الحديث التي بين أيدينا نقلت الكلام بالمعنى لا باللفظ، وهو ما قاله المحدثون أنفسهم، وشهد على ذلك اختلاف الروايات حول الحدث الواحد، فهل يدركون خطورة ذلك؟ فما يسمونه من الروايات وحيا هو من ألفاظ الراوي لا من ألفاظ النبي، وهذا يعني أن ألفاظ الراوي ستتحول إلى وحي منسوب للنبي ثم لله!!
ومن الأسئلة المهمة التي يمكن طرحها عليهم هذا السؤال: هل كان اكتمال الدين بنزول آخر آية أم بقول آخر حديث؟ وهل فهم المؤمنون من قوله تعالى “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً” أن الدين اكتمل بالقرآن أم فهموا أن الدين لم يكتمل بعد وأنه سيكتمل بقول آخر حديث؟ أظن أن القول بأن الدين لم يكتمل بنزول آخر آية سيكون مجازفة منهم وردا لنص الآية.
وإذا كانت الروايات التي جاءت في كتب الحديث وحيا فلم يكثر فيها التناقض مع نفسها، والتناقض مع القرآن، والتناقض مع صريح العقل؟ فهل هناك وحي يناقض نفسه؟ والتناقض المقصود هنا هو ذلك التناقض الواضح حين تجد الحديث يقول بالشيء وحديث يقول بضده، ومن الصعب الجمع بينمها.
فالقرآن مثلا يقول “ولا تزر وازرة وزر أخرى” والحديث يقول “يعذب الميت ببكاء أهله عليه” ويدافع القرآن عن اتهام النبي بالسحر “إن تتبعون إلا رجلا مسحورا” فتأتي الرواية لتقول أنه سُحر وأن يهوديا في المدنية سحره، وأن سورتي الفلق والناس -المكيتان- نزلتا بالمدنية لتفك ذلك السحر؟ تأملوا كل هذا التناقض!!
ولو أنك جمعت كتابا في تناقض الأحاديث لوجدت مادة كبيرة بعضها واضح جدا في تناقضه وبعضها مما يقبل فيه الجمع على تكلف.
وإذا كان الحديث وحيا فلماذا رد فريق من الفقهاء والأصوليين الأوائل الاستدلال به في العقائد وقبلوا الاستدلال به في الأحكام فقط؟ فهل رفضوا الاستدلال بالوحي؟ أم أنهم كانوا لا يعتبرونه وحيا فردوه على هذا الأساس؟ لقد اعتبروا أن أحاديث الآحاد -وكل ما في كتب الحديث الموجودة بين أيدينا آحاد – تفيد الظن لا العلم وبناء على ذلك ردوا الاحتجاج بها في العقائد.
إذا كان الحديث وحيا فلماذا رد أبوحنيفة أحاديث كثيرة بحجة مخالفتها للقياس وعموم القرآن؟ فهل كان يقدم القياس على الوحي ؟ ولماذا رد مالك أحاديث بحجة مخالفتها لعمل أهل المدنية ومحالفتها للقواعد العامة في القرآن؟ هل كان يقدم عمل أهل المدينة على الوحي؟
ولماذا كان كثير من المفسرين يفسرون الآيات بعيدا عن الروايات؟ فنجدهم يفسرون آية رغم وجود رواية تفسرها بشكل آخر، وهذا موجود بكثرة لمن تأمل كتب التفسير، وهو ما سموه بالتفسير بالرأي في مقابل التفسير بالمأثور، فهل قدموا رأيهم على الروايات التي يعتبرها هؤلاء من الوحي؟
هناك من حاول التبرير لأولئك المفسرين بقوله: لعل الحديث لم يصلهم. وهنا سيكون السؤال: وكيف يقدمون على التفسير وجزء كبير أو صغير من الروايات التي يعتبرونها وحيا لم تصلهم؟ وهل يحق لهم أن يفسروا دون أن يراجعوا كل الروايات ما دامت وحيا؟ ثم لماذا نجد أن المتأخر عن عهد النبي وصله الحديث والقريب من عهده لم يصله؟ فهل وصل وحي الروايات للمتأخرين وغاب عن المتقدمين أم أن تلك الروايات صكت في زمن متأخر ثم نسبوها للنبي ثم جعلوا قوله وحيا؟ فكانوا كمن يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله !!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.