شهدت الإمامة الزيدية خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، تغير نوعي في مسارها السياسي شهدت الإمامة الزيدية خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، تغير نوعي في مسارها السياسي، استقرت وراثة في ذرية «المتوكل» القاسم بن الحسين، عمل أحفاده على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من علماء السنة المُجددين، ليس حباً فيهم؛ وانما حفاظاً على كراسيهم، مُستفيدين من عدم اجازة هؤلاء للخروج على الحكام، شهدت الدولة استقراراً نسبياً، وشهدت صنعاء حراكاً فكرياً وثقافياً، كان العلامة محمد بن علي الشوكاني أبرز أعلامه.
تولى «المنصور» علي بن «المهدي» عباس الإمامة بوصية من أبيه «1189هـ»، كان عهده أكثر استقراراً من سابقيه، لم يخرج خلال مدة حكمة التي تجاوزت الـ «35» عاماً من صنعاء لغزو، بل أناب عنه ولده الأكبر، وقائد أجناده، الأمير أحمد، خلد المؤرخ لطف الله جحاف سيرته في كتاب: «درر نحور الحور العين»، وقال عنه أنه «استرخى للمُلك، ومال إلى اللذات والإكثار من الزواج، واقتناء السرائر الحسان، وأكثر من بناء القصور»، ويعد «دار الحجر» في «وادي ظهر» من أعظم انجازاته.
أمام هذا التوجه الجديد، برزت حركة معارضة قوية، تبناها الأمير القاسمي علي بن أحمد، كان «جارودياً» مُتعصباً، احتمى واستنجد بـ «قبائل بكيل»، بذريعة حماية المذهب الزيدي؛ قادهم صوب صنعاء «1196هـ»، قطعوا الطرق، ونهبوا الاموال، وسفكوا الدماء، تصدى له الأمير أحمد، لتدور في حدة معارك شديدة، اسفرت عن قتل العشرات من الجانبين.
انكسرت القوات الغازية، ثم اكملت مسيرها صوب «اليمن الأسفل»، وعاثت فيه كالعادة قتلاً، ونهباً، وخراباً، استقر الأمير المُتمرد في «جبال بعدان»، ليرسل بعد ثلاث سنوات طالباً العفو، عفا عنه «المنصور»، ليضعه بعد أربع سنوات تحت الإقامة الجبرية، والسبب، غلوه في الرفض.
كان «الشوكاني» من أبرز المُقربين للإمام «المنصور»، ولاه القضاء الأكبر «1209هـ»، أكسبته هذه الوظيفة ووظيفته الأخرى «كاتب الإمام»، نفوذاً كبيراً، فأدى دوره كمستشار سياسي على أكمل وجه، وكانت نصيحته الصادقة مسموعة عند ولاة الأمر، وعند غيرهم.
ساهم حراك صنعاء الفكري في بروز حركة رفض شيعية، تبناها غلاة الزيدية، كان لهم مساجدهم ومجالسهم الخاصة، وفي هذا الخضم أصر يحيى بن محمد الحوثي ذات نهار رمضاني «1216هـ»، على الذهاب إلى الجامع الكبير، كي يجاهر بسب ولعن الصحابة، إلا أن «المنصور» وجه بمنعه، ثار حينها أنصاره، ومنعوا إقامة الصلاة، وخرجوا إلى الشوارع، يصرخون بلعن الأحياء والأموات، حتى صاروا الوفا مؤلفة.
توجهوا إلى بيوت معارضيهم، خربوا، وكسروا، وأحرقوا، ونهبوا، وافزعوا الأطفال والنساء، اجتمع «المنصور» في اليوم التالي بأعوانه ومستشاريه، أشار عليه «الشوكاني» بحبسهم، ففعل، ومن ثبت تلبسهم بالسرقة، ضربوا وعزروا بضرب المرافع على ظهورهم، أما رؤساء تلك الفتنة، فقد ارسلوا مقيدين بالسلاسل إلى «زيلع»، وجزيرة «كمران»، وحبسوا فيهما، ونتيجة لذلك حاول بعض المُتعصبين قتل «الشوكاني» وهو يلقي دروسه.
في العام التالي خرج الشريف حمود بن محمد الحسنى، «صاحب أبي عريش»، عن طاعة «المنصور»، معلناً ولائه لـ «آل سعود»، الذين غزوا بلاده، وانتصروا عليه بعد معارك شديدة، راح فيها مئات الضحايا من الجانبين، ثم دعموه ليزحف جنوباً، حتى تمت له السيطرة التامة على تهامة، مُستقطعاً تلك المناطق من خارطة «الدولة القاسمية»، ليعلن نفسه ملكاً متستراً بطاعة «آل سعود»، توجه الأمير أحمد لمحاربته، إلا أنه لم يظفر بنصر.
بعد الحملة الفرنسية على مصر، سارع الانجليز باحتلال جزيرة «ميون»، ثم «كمران»، ولم يستقروا فيهما بسبب تضاريسهما الوعرة، ليعقدوا بعد ذلك اتفاقاً مع الشريف حمود، اشترطوا عليه أن لا يستخدم الفرنسيون جُزر ومواني البحر الأحمر التابعة له، وهو ذات الطلب الذي توجهوا به «1218هـ» لإمام صنعاء، خاصة وان ميناء المخا كان لا يزال تحت سيطرة الأخير، ومما زاد الطين بله احتكار الأمريكان لتجارة البن وجميع تجارة اليمن الخارجية.
تفاقمت بعد ذلك الأزمات الاقتصادية، لترفع الصراعات الداخلية وسوء الإدارة من وتيرتها، لجأ «المنصور» إلى زيادة الضرائب، وتغيير العملة، بمباركة وفتوى من بعض العلماء، بحجة أن الدولة لا تقوم إلا على ذلك، ولا تتّم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها، فعم الغلاء، وكثر البلاء، وزادت حوادث السرقة، والسلب، والنهب، وقطع الطرق.
استاء «الشوكاني» من تصرف «المنصور»، وانتقده بقصيدة شعرية، لينجح بعد ذلك في إقناعه بإصدار مرسوم ـ حرره بيده ـ يقضي برفع المظالم عن الرعية، والاقتصار على ما حدده الشرع، وبصفته رئيس القضاء أمر عمال الدولة بتنفيذه، إلا أن الأمراء الاقطاعيون، وبطانة السوء حالوا دون ذلك، لم ييأس حينها «الشوكاني»، بل سارع في كتابة رسالة «الدواء العاجل في دفع العدو الصائل»، شخّص فيها الأدواء، ووضع الحلول الناجعة الصالحة لكل زمان ومكان.
كانت «الدولة السعودية» آنذاك في قمة عنفوانه
ا، بدأت مطامعها بالسيطرة على جنوب الجزيرة العربية تتبدى، واستمر أميرها عبد العزيز بن سعود بإرسال رسله ومكاتيبه إلى صنعاء، تولى «الشوكاني» مهمة التفاوض والرد عليها، وفي ذلك قال: «وما زال الوافدون من سعود يفدون صنعاء.. ثم وقع الهدم للقباب والقبور المُشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها»، وقيام «المنصور» بتنفيذ مطالبهم بعد مشورة «الشوكاني»، خطوة ذكية، صفّت الأجواء الملبدة بين الجانبين لسنوات.
في أواخر العام «1222هـ» تمرد أهالي «الروضة»، بإيعاز جماعة من «آل الكبسي»، و«آل ابي طالب»، ومعاضده من الأمير الطامح أحمد بن عبد الله بن «المهدى» عباس، ومساعدة من بعض القبائل، وحين تقوى أمرهم، رام بعضهم خلع «المنصور»، وتنصيب الحسين بن عبدالله الكبسي بدلاً عنه، وكتبوا الى الاقطار اليمنية بذلك، فشلت جهود الوسطاء في ايقافهم، فخرج إليهم الأمير أحمد بعدد كبير من قواته، قبض على قادتهم، وأودعهم السجن، بعد أن تشفع لهم «الشوكاني» من موت مُحقق، ليموت «الكبسي» بسجنه في العام التالي.
في تلك الفترة، أعلن «المتوكل» إسماعيل بن أحمد بن عبدالله الكبسي من «الظفير» نفسه إماماً، وهو من الأشراف «الحمزات»، بقي فيها ثلاث سنوات، إلى أن داهمه الأمير أحمد ضامراً أسره، فهرب إلى صعدة، ومكث فيها «13» عاماً، ثم أتجه إلى «برط» لعله يجد عونا من أهلها، وحين خاب مسعاه، تخلى عن دعوته، وانقطع للعلم والوعظ إلى أن توفي.
اشتهر «المنصور» بإيكال أموره إلى وزراءه، حتى اضطربت احوال دولته، وكاد زمامها أن يفلت من تحت يديه، خاصة عندما تولى الوزارة حسن العُلفى، الذي استبد وتحكم في كل شيء، واستخف بالأمراء، وقصر في أرزاق الأجناد، وأعطيات المشايخ، الأمر الذي شجع القبائل على التمرد، فكثر النهب والقتل، وحوصرت صنعاء، ومات كثير من سكانها جوعاً، وأنهك من تبقى في انتظار المجهول.
ثار الأمير أحمد على ذلك الوضع «1223هـ»، قبض على الوزير العُلفي، وزج به في السجن، الأمر الذي أغضب «الأب»، فارسل «الابن» جماعة من عساكره احاطوا بـ «المقام الشريف»، ودارت مناوشات محدودة، تدخل حينها «الشوكاني» للمصالحة، ووظّف ثقله السياسي بمساندة تلميذه أحمد في انقلابه الأبيض، وكانت نتيجة هذه المساعي أن سُلمت السلطة إلى الأخير، على أن يحكم باسم أبيه.
… يتبع