لو أن تلك الجهود المبذولة في الحروب اتّجهت إلى إعمار الأرض وزراعتها، وتصنيع منتوجاتها الزراعية والحيوانية وتصديرها إلى خارج حدودها لغدت اليمن من أقوى بلاد الدنيا اقتصاديا
لو أن تلك الجهود المبذولة في الحروب اتّجهت إلى إعمار الأرض وزراعتها، وتصنيع منتوجاتها الزراعية والحيوانية وتصديرها إلى خارج حدودها لغدت اليمن من أقوى بلاد الدنيا اقتصاديا
الباعث على كتابة هذه المقالة الحرب التي تدور رحاها في اليمن على مدى عشرين شهرا، وفي الوقت نفسه ما نلحظه من امتلاء شوارع مدننا الكبيرة والصغيرة بمباسط بيع الرمان اليمني، والإقبال على شرائه بأغلى الأثمان. تأملت هذه الوفرة في موسم الرمان اليمني، وقبله موسم الموز جنبا إلى جنب مع موسم العنب، وشحنات الفل التي لا تكاد تتوقف طوال العام عن الوصول إلى أسواق المملكة العربية السعودية، على الرغم من أن منافع كثيرة عادة ما تتوقف بسبب الحرب في أي مكان من الدنيا إلا في اليمن الذي يجمع بين الحرب والخَصْب في آن واحد.
فتاريخ اليمن ممتلئ بالحروب منذ ما قبل الإسلام، وفي العصور الإسلامية كانت الحرب لا تتوقف في اليمن إلا وتندلع أخرى. رأينا ذلك فيما يعرف بعصر الولاة، وهي القرون الثلاثة الأولى من عمر الخلافة الإسلامية حينما كانت اليمن تتلقى ولاتها من العواصم المركزية للدولة الإسلامية حينذاك في كل من المدينة المنورة، فالكوفة في عصر النبوَّة والخلافة الراشدة، ثم في دمشق في عصر بني أمية، ثم في الكوفة مرة أخرى، فالأنبار وبغداد في العصور العباسية.
وفي عصر الدويلات الإقليمية، واستقلال بعض الأسر بحكم اليمن تحارب بنو زياد مع زُمْرة علي بن الفضل الجدني، وتحارب الزيديون مع بني يعفر، ومع جميع الدويلات السنية والإسماعيلية التي قامت في اليمن بعد ذلك، بل لقد تحاربوا فيما بينهم قروناً طويلة طلباً للإمامة. وتحارب الصليحيون مع بني نجاح، وتحارب النجاحيون مع بني مهدي الذين شنوا حرباً لا هوادة فيها على جميع الأسر الحاكمة في اليمن، وأسقطوا تلك الأسر مما كان سبباً في مجيء الأيوبيين إلى اليمن في سنة 569، وعنهم انبثقت الدولة الرسولية بدءً من العام 626هـ، ثم الدولة الطاهرية، بدءا من العام 858، ثم المماليك اللِّوَنْد الذين أسقطوا دولة بني طاهر، ثم مجيء العثمانيين وحروبهم الطويلة مع القاسميين، وما تلا ذلك من انسحابهم وقيام المملكة المتوكلية الحديثة إلى العصر الجمهوري. وما من عصر من هذه العصور إلا وشهد حرباً في اليمن تشيب لها الولدان، ومع ذلك فالخصب وخيراته ملازم لليمن طوال تاريخه حتى إننا من أمثالنا نحن الذين نسكن في تهامة عسير قولنا: “إذا ذهب ابنك إلى الشام أُرْجُه (أي أنه سيعود)، وإذا ذهب إلى اليمن أُبْكُه”، أي أنه لن يعود بسبب ما في اليمن من خيرات وحياة سعيدة تغنيه عن الرجوع إلى أهله.
ولم تقتصر حروب اليمنيين على اليمن وحدها وحسب، بل لقد حارب اليمنيون وتحاربوا خارج حدود يمنهم، فقد كانوا مع إخوانهم القيسيين مادة الفتوح الإسلامية ووقودها، وفي ذلك خير لهم، إلا أنهم حينما اختلف المسلمون وتحاربوا فيما بينهم كان يمنيون في مواجهة يمنيين آخرين في جميع الصراعات التي قامت بين بني عبد شمس (الأميون) وبني هاشم (العلويون والعباسيون)، بل إن لليمن دوراً كبيراً في إسقاط دولة بني أمية، وقيام دولة بني العباس، ومن يتأمل وصية إبراهيم الإمام أول الثائرين العباسيين (توفي مسموماً عام 132) يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن بني العباس اعتمدوا اعتماداً كبيراً على المحاربين اليمنيين في إسقاط دولة بني أمية، وقيام دولتهم، فها هو إبراهيم الإمام يقول في تعليماته التي وجهها سنة 128 إلى داعي دعاته في خراسان أبي مسلم الخراساني، وفيها يقول: “…انظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم، وأسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتّهم رَبِيْعَة في أمرهم، وأما مُضَر فإنهم العدو القريب الدار” (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص295). أي أن اعتماد العباسيين في قيام دولتهم كان على مناصرة اليمنيين لهم بالدرجة الأولى، وليس على الفرس كما يحلو لبعض المؤرخين القول به. وهكذا يتضح أن اليمنيين كانوا هم وقود الحروب طوال تاريخهم، وأنهم لا يكفون عن التحارب فيما بينهم سواء كانوا على أرض يَمَنِهم، أو كانوا في خارجها.
أما خَصْب اليمن وخيراته فحدّث عنه ولا حرج، فهي من بقاع الدنيا القليلة التي حباها الله منه بالشيء الكثير منذ فجر تاريخها وحتى عصر الناس هذا، فمؤرخو اليونان هم من أطلق عليها العربية السعيدة (Arabia Felix) كناية عن خصبها، وكثرة خيراتها، وفي العصور الإسلامية كان ارتفاع اليمن في الجبايات التي تذهب إلى بيت مال المسلمين في كل من الشام والعراق عالياً جداً طبقاً لما أورده مؤرخو الخراج والأموال في ذلك الوقت. ومن يعرف اليمن في وقتنا الحاضر، وتجول في أقاليمها، وارتاد أوديتها وجبالها، ووقف على غيولها وعيونها، ومواطن الخَصْب فيها، وشاهد غزارة أمطارها، وتدفّق سيولها العارمة في مواسم نزولها يدرك بما لا يدع مجالاً للشك بأنها من أخصب بقاع الدنيا، وأجودها خيرات ونماء سواء في جبالها حيث الأجواء العليلة، والغطاء النباتي الأخضر، والمحصولات الزراعية المتنوعة، أو في تهامتها حيث أوديتها الفحول، ومنها: وادي حَيْرَان ووادي مَوْر ووادي سُرْدُد ووادي سِهَام ووادي زَبِيْد التي لا تنقطع خضراؤها لا في صيف ولا في شتاء، وهي تجود بأصناف المحاصيل الزراعية من الحبوب والخضروات والفاكهة في سهولها وجبالها، ومنها فاكهة الرمان اليمني الذي ما أظن رماناً على وجه البسيطة أشهى وأحلى وأطرى من الرمان اليمني، ولو توسع اليمنيون في استنبات شجرة الرمان وتسويقه لاحتكروا به أسواق العالم، وفضلاً عن ذلك ففي اليمن بيئة رعوية وثروة حيوانية لا تقل عن جيرانها المقابلين لها في القرن الأفريقي. ولكم أن تتصوروا لو أن تلك الجهود المبذولة في الحروب اتّجهت إلى إعمار الأرض وزراعتها، وتصنيع منتوجاتها الزراعية والحيوانية وتصديرها إلى خارج حدودها لغدت اليمن من أقوى بلاد الدنيا اقتصادياً، فنحن نعرف بلداناً كثيرة في أوروبا الغربية قامت نهضتها الحديثة على الزراعة والتصنيع الزراعي، وعلى رأسها فرنسا.
نقلا عن الوطن السعودية