لماذا يسود ظلام الباطل طويلاً وينطفئ نور الحق باكراً قبل حتى أن يمتد وهجه..؟
لماذا يسود ظلام الباطل طويلاً وينطفئ نور الحق باكراً قبل حتى أن يمتد وهجه..؟
منذ قرون والعالم الإسلامي يوكل شؤونه إلى الله تعالى ليدبرها له، ويوجد له المخارج والحلول، وهذا ما يفترض أن يكون كعبادة قلبية، استعانة بخالق الأسباب والقوانين ومحاولة لاكتشافها و فهمها وفهم علاقاتها، فنحن إنما نستمد قوتنا من الله تعالى ونحقق النجاحات من عونه لنا، إلا أن البعض في توكله على الله قد أوكل تلك المحاولة للاكتشاف والفهم العميق إلى الله تعالى، ينتظر أن يوحي له به من دون جهود تُذكر منه، تاركا الأسباب كلها في قضاياه، منتظراً حدوث معجزة من السماء تخلصه من مشكلاته وتزيل عنه الأغلال التي كبلته حيناً من الدهر وحالت بينه وبين تحقيق أحلامه، ذلك أنهُ يظن أن تلك العوائق إنما هي قدر حتمي من الله تعالى عليه، يظن أن جهله وضعفه وعجزه وأحزانه وفقره ومظلوميته إنما هي قدر حتمي لا يمكن تغيره من خلال السعي وبذل الأسباب المسخرة له، يرى أن حاله لا يمكن أن يتغير إلا إذا غيره الله تعالى دون أن يبذل جهدا ..!
العالم الإسلامي لا زال يعيش على أوهام المعجزات الخارقة التي تغير مسار حياة الصالحين من عباد الله تعالى، وتحقق أحلامهم وتنقذهم من هفواتهم وزلاتهم و وتتوب عليهم من ذنوبهم من دون جهود تذكر.. ينتظر أن تُفرش له الأرض ورودا من دون عناء، كأنهُ في جنة الخلد يتمنى فيتحقق له ما يريد وهو متكئاً على الأرائك..!
يلخص المفكر المصري زكي نجيب محفوظ إحدى أعقد مشكلاتنا بقوله :
” لازال الإنسان الصالح في أوهام الناس هو من ينصرف صلاحه هذا في– لا إلى شق الترع وبناء الجسور ورصف الطرق وإقامة المصانع، وإبداع الاختراعات، بل لينصرف صلاحه نحو تعطيل أي قانون طبيعي شاء، فهو يأتي لك بالفاكهة من هواء الغرفة، وليس من الضروري عنده أن تحتاج الفاكهة إلى تربة وماء وشمس وهواء وهو يقرأ لك الدروس المطوية لأن القراءة عنده ليست مشروطة ببصر ورؤية ..!
إذا فُتح موضوع الخوارق والكرامات تجد الناس يُقبلون للاستماع وهم في نشوة السعادة والرضى أن يٌحكى عن أصحاب الصلاح والطيبة والتقوى كل الخوارق التي تُبطل أي قانون شئت من قوانين الطبيعة، كأن الله تعالى يرضيه أن تكون سنّته في كونه لهواً وعبثاُ ..! ”
هكذا هم الكثير من المسلمين يحبون تعطيل القوانين التي بموجبها يسير الكون، يمضون في سعيهم عاجزين عن الجمع بين الطريقين: بذل الأسباب والتمكّن منها مع توكل القلب واستعانته بالله أن يلهمه وأن يوفقه فيما يريد ..
هذا الكون الذي أوجده الله تعالى بكل ما فيه، أرضه وسماؤه، تحكمه قوانين دقيقة هي ما يسميها القرآن ( سننا ) “قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا …..”(137) ال عمران
القوانين التي أوجدها الله تعالى في هذه الحياة لا تجامل أحداً ولا محاباة فيها لأحد, مسلما كان أم كافرا، فهي قوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، من عرفها وعمل بها كسب ومن تنكبها خسر ولو كان نبياً وصديقاً، تهاون الصحابة بسبب واحد في معركة اُحد فتحول نصرهم العزيز إلى هزيمة أغرقتهم في الألم..
إننا نفتقر للفهم الجيد والوعي العميق بتلك القوانين، و نكتفي بالعمل السطحي أو تسليم الأمر كله لله تعالى، نتهاون بالأسباب فيبقى دعاؤنا في السماء، و يُسحق أهل الحق ويتزعمهم الباطل قروناً، ليس لأن الله تعالى ليس معنا، أو لأنه لا يسمع دعاءنا ولا يستجيب لنا ولا ينصر المتوكلين عليه ، تعالى الله عن ذلك ، وإنما لأننا تركنا العمل الذي كلفنا الله تعالى به ، تركناه ليقوم به سبحانهُ نيابة عنا، في حين أن أهل الباطل يسعون ليل نهار في بذل كل الأسباب الظاهرة والخفية، التي سخرها الله تعالى للنصر ..
ليس الحق هو من خذلنا بل نحن من خذلناه، ولا هو الذي غاب حتى ساد الظلام بل نحن الذين غيبناه وحجبنا نوره عن حياتنا، نحن الذين عرضناه بطريقة رديئة وتحركنا له بوهج ضعيف وبروح متساهلة، ذلك الذي جعلنا نخسر ومكّن للشر في بلادنا، وها هو يستولي على حقوقنا.. يبدد ثرواتنا ومقدراتنا .. و تستعر في أرضنا نيران الحروب الطائفية التي تمزقنا اشلاءنا.. نضعف وننهار ويكثر القتل والفقر والجوع والمرض والجهل والألم في بلادنا، في حين يتوحد الغرب وتنمو بلادهم ويسود العلم والبحث ويزداد الاكتشاف ويتنامى الإنتاج وتقوى الصناعة ويعلو شأن الغرب غير المسلم الذي لا يتوكل على الله تعالى، يعلو شأنه بقدر اعتماده واتكاله على اكتشاف قوانين وسنن الأشياء التي تحكم الحياة، ذلك أن هذا العالم الذي نعيش فيه لا تحدث الأشياء فيه من تلقاء نفسها ولا مكان فيه للصدفة، وإنما هناك أسباب ومسببات ونتائج تسبقها مقدمات, وقد وعد الله تعالى أن من يتبع الأسباب يكسب كائناً من كان ” كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20 ) ” الإسراء
” سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا 23 ” الفتح
إن من يكتشف سنن الأشياء التي بثها الله تعالى يصبح أكثر تحكماً بالقدر .. ألم يقل الله تعالى: ” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) ” القدر هي النواميس والقوانين التي تحكم الأشياء، وكلما فهمناها أكثر كلما كانت قدرتنا على التحكم بحياتنا ومصائرنا أكبر .. فعلى سبيل المثال كلما تعلمّنا أكثر وكان البحث العلمي فعّال حول جسم الإنسان والبيئة والأمراض والأدوية كلما تمتع الإنسان بالصحة أكثر وكان أكثر فعالية, وتقلّصت نسب الوفيات وارتفع معدل الأعمار مقارنة بما كان عليه من تخلف في زمن الضعف والجهل بهذه الأشياء.
هذه احصائية تبين معدل وفيات الأطفال دون 5 سنوات (لكل 1000 مولود حي)
الدولة
1960 م
2015 م
إندونيسيا
222%
27%
إيطاليا
52 %
4 %
الإمارات
205%
7 %
تركيا
294%
14 %
حين فهمت البشرية النواميس المتعلقة بالصحة والحفاظ عليها تحكموا بالحياة وحولوها من قدر الأمراض والوفيات المبكرة إلى قدر الصحة وطول العمر..
وهذا يذكرنا بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أعرض عن دخول أرض الشام حين انتشر فيها وباء الطاعون . فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قَدَر الله، فقال عمر: نعم، نَفِر من قَدَر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوتان، إحداهما: خِصْبة، والأخرى: جَدْبة، أليس إن رعيتَ الخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله”
وقس ذلك على باقي جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية والنفسية وغيرها .. فكلما فهمناها أكثر كلما تحكمنا بها أكثر، اليوم الغرب متفوق علينا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلمياً واجتماعياً لأنهُ فهم السنن التي تحكم تلك الجوانب فتمكّن من التحكم بها، وها هو اليوم يُعلي من شأنه ويحقق أحلامه على أطلالنا ..
الغرب اليوم حين يقرر أن يتخلص من مشكلة عويصة تخصه أو تتعلق بمخاوفه من بلاد الإسلام تجده يجهز لها الباحثين ويرصد لهم الموازنات اللازمة للغوص في أعماق المشكلة التي يعانون منها ولفهم السنن التي تحكمها وإيجاد حلول تنهيها من جذورها، فتأتي نتائج تلك الدراسات لتتخذ بعدها القيادات السياسية قراراتها على ضوئها فينجح الغرب في مبتغاه ويحقق مآربه، في حين لا تزال قرارات حل مشكلاتنا قرارات فردية لا دراسة علمية عميقة حولها ولا محاولة لفهم سنن الأشياء التي نتعامل معها وطبيعتها وبالتالي لا حلول عملية لها، ، لذلك تأتي نتائجها علينا وليس لنا ، تأتي بمزيد من التعقيد لمشكلاتنا ومزيد من الضعف في بلداننا ..
كم حذر المفكرين وكم نبه الفلاسفة إلى الأخطار المحدقة بالعالم العربي والإسلامي ولازالت في مهدها و لا زال علاجها القاطع في متناولنا، ولم يُسارع المعنيين باتخاذ أية إجراءات حيال ذلك ، فلا آذان تُصغي لعلمائنا وفلاسفتنا و لا اهتمام لملاحظاتهم وحساباتهم .. لازالت الفردية حاكمة في عالمنا العربي والإسلامي .. تلك الفردية التي ندفع جميعنا ثمن قصورها وثمن تواكلنا وفهمنا القاصر للأسباب .. ندفعه قتلاً وجوعاً وخوفاً وتشريدا ودماءً واشلاء في كل ارجاء العالم العربي والإسلامي، ندفعها ضعفاً في كل شئوننا وظلاماً يخيم من مدة طويلة على حياتنا.. ذلك الظلام الذي لن ينتهي إلا حين نواجه تمدده بمزيد من العلم والفهم وإتقان العمل وفق روح العصر وسنن الأشياء مع استعانة بمسبب الأسباب ومصدر القوة في هذه الحياة الله جل جلاله .