حتما ستنجو البلاد حين نسأم من مكائد الطائفية وقسوتها مبكرا ونتجاوزها، وذلك كي يكون مضمون الصراع بأهداف وطنية وتطورية، ذات معنى ثقافي ومدني، فارق في الوجدان الجمعي وطريقة التفكير! حتما ستنجو البلاد حين نسأم من مكائد الطائفية وقسوتها مبكرا ونتجاوزها، وذلك كي يكون مضمون الصراع بأهداف وطنية وتطورية، ذات معنى ثقافي ومدني، فارق في الوجدان الجمعي وطريقة التفكير!
ولذا لا مناص لنا من الإنحياز إلى مايمثل جامعا وطنيا، والتموضع داخل حلم دولة المؤسسات والمواطنة المتساوية.. الدولة التي تحتكر السلاح ويسودها القانون. أما الحرب فهي بالتأكيد تمثل أعلى مراحل تجليات فشل مشروع الدولة اليمنية الضامنة لتحقيق كل تلك القيم والمفاهيم الوطنية المشتركة؛ وهي الحرب التي تكشف أوهام السلاح العصبوي، المنفلت والمتحالف مع منظومة الهيمنة التقليدية، لتكريس مشروع الدولة الطائفية وفق أدوات ومظاهر مذهبية وجهوية “سلالية وقبلية” تمثل أسوأ أنواع حالات الإستغلال السياسي للدين، فضلا عن كشفها لتراكم صلافة الإستعلاء المناطقي الرافض لإقامة دولة كرامة وعدالة لجميع اليمنيين.
وبلاشك؛ فإن أسباب الحرب لم تأتي من فراغ، بل هي نتيجة، وليست ولادة فجائية مثلا.. ذلك أن ما ورثه النظام السابق (الحالي) على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، يعيدنا إلى مربع ثورتي 26 سبتمبر 1962 و 14 اكتوبر 1963، لنكتشف بعد مرور أكثر من خمسة عقود، افتقادنا لشروط التحديث والتطور، بل وانهيار ما كان قد تراكم من تجارب ومحاولات.
ففي جردة حساب، سيتضح لنا أن قوى الإفساد والإفقار والإقهار المتنفذة، كادت أن تفرغ الوطن من معناه وتصيب حركة التغيير بالشلل التام، وهي قوى مشحونة بالإقصاء والاستحواذ وتجيير الدولة لصالح أجنداتها الخاصة، إضافة إلى اختزالها لليمن بصورة فهلوية تعسفية، وتشويها وضربها لطموحات الحركة الوطنية الديمقراطية، وتعاملها مع مجريات الأحداث والتحولات دون مبالاة ودون مسؤولية أيضا.
على إن الحرب ليست نهاية التاريخ، كما أن من يخوضونها لصالح مشاريعهم العنفية والاستغلالية والاصطفائية المأزومة- ماقبل الوطنية والمزدهرة أكثر في وضع اللادولة- حتما سيدخلون في المتاهة الكبرى، وسيخسرون مهما بلغ حجم توحشهم الهمجي.. أما من يخوضونها لصالح إستعادة الدولة، وتنمية المشروع السياسي الديمقراطي -بمضامينه الإجتماعية والإقتصادية السوية-الذي لطالما ناضلت من أجله -وكابدت مرارا- مختلف القوى والفئات المدنية، بمافيها قوى الثورة الشعبية السلمية المنحازة للتغيير وللتحديث، ولعدم الإنقسام ولعدم التفكيك؛ فهؤلاء فقط من سيكون المستقبل الخلاق لهم، إذ أن غايتهم إعادة صياغة قيمتي الجمهورية والوحدة، على مقاس مصالح الدولة والمجتمع تماما، وليس على مقاس عصابة أو حتى عصابات.
وبالطبع؛ فإنه رغم الإدراك العميق لكافة الصعوبات والتحديات الجمة والمحبطة كذلك، علينا أن نواصل التشبث بأمل جذوة اليمنيين الحلمية التي لاتنطفئ مهما تجبرت الرياح، وبالمقابل ليس أمامنا سوى الإستناد إلى يقين حتمية هذا المسار الأشد مشقة، كخلاص إجباري وأنضج.. بمعنى آخر ينبغي التشديد على أن لامكان في المستقبل المنشود، لكل من يملك السلاح خارج نطاق الدولة، كما لامكان لمن سيعتقد بقدرته على تحويل الجيش- مثلما في الماضي- إلى اقطاعيات وعصابات تتعامل مع مؤسسات الدولة والوظيفة العامة بجشع وعدم شراكة ووفق عصبية لاوطنية مأزومة لا وفق كفاءات واستحقاقات المواطنة المتساوية.
وعلى هذا الأساس المأمول فقط، يمكن للمستقبل أن يؤدي إلى دولة ومواطنة حقيقيتين، مالم فإن تكرير يمن مرتهن لأشخاص وشلل، هو ماسيصدمنا مستقبلا، إضافة إلى تكريس حالة المواطنين (الرعايا) الذين تتم خديعتهم وتزيين استلاباتهم وفق المناطقيات والطوائف الموهومة والفجة.
أما الآن فإن من أكبر المخاوف، فشل الحرب في فرض إرادة اليمنيين الجامعة، وكذا فشل الجميع في فرض السلام أيضا.
فالأخطر أن ينحرف الصراع عن مضامينه غير الطائفية، ليتم تطييفه من أجل إرهاق المجتمع بقضايا جانبية، وبالتالي استمراره كصراع مقرف وعبثي بلامعنى، خصوصا إذا ذبل الخطاب الوطني، وانتعش خطاب أصحاب المشاريع الصغيرة فقط.
فلقد شارك الجميع دون استثناء في تطور الوباء البشع الذي ابتلت به اليمن، منذ قال الشعب إنه يريد إسقاط النظام، وانه يريد بناء دولة مدنية حديثة؛ وحتى اللحظة.
وللتذكير؛ خذلتنا بعد ثورة الشباب، هيمنات ومفاسد الأحزاب والجماعات المغلقة، تلك المتسمة بالأنانية المصلحية، وبالنعرات المناطقية والطائفية، بينما كانت تتهافت من أجل حصصها في السلطة والثروة، وحتى في الجغرافيا، ليدخل من يدخل مؤتمر حوار موفمبيك، بذات الوعي الترحيلي للمشاكل والمراكم للقضايا، الوعي التقاسمي المشوه -وعي الغنيمة- في التعامل مع فكرة الوطن ومفاهيم مؤسسات الدولة والمواطنة المتساوية.. وعي إحتكار إرادة الشعب لصالح نخبة معلولة ورثة بمبررات التخلص من المركزية الإدارية والمالية، من خلال تحويل شكل الدولة بقفزة واحدة -هي أكثر من مغامرة بالطبع- إلى دولة فيدرالية، بينما الحل الأمثل الخالي من الحزازات ومن الكوارث التطييفية برأينا، هو الحكم الكامل الصلاحيات ماليا واداريا وتشريعيا وتنفيذيا لكل محافظة.. على أن تكون للعاصمة وضعها الخاص الذي ينظمه القانون وسياق الثروات السيادية.
والحال أن فرصة التحول التاريخية في 2011 ضاعت بعد حرف مسار الثورة السلمية بالعنف، ثم تربص الجميع بالجميع داخل النظام سلطة ومعارضة، مرورا بإقرار حكومة الحصانة والتحاصص، الاستخفاف بتضحيات الشعب، تعليق الدستور، عقد مؤتمر التفكيك، إنتقامية صالح، تواطؤ هادي، سلبية الأحزاب، ثأرية الجنوب، استغلال الحوثي، تأكيد لاوطنية حالة الجيش المنقسم بين أفراد، ضرب التحية العسكرية لجهادية وجرائم ميليشيات الولاية والتوريث المتحدة، تجريف كل ماراكمه المشروع الوطني الديمقراطي، تفاقم صدمة الإنقلاب وكارثيته المنعكسة على الدولة والمجتمع، إمتداد الحرب الداخلية واشتعال تداعياتها المختلف وتوظيف الإرهاب، تجليات كيد إيران، تجليات طيش التدخل السعودي بإندلاع جرائم وأخطاء التحالف؛ ووصولاً إلى دأب إفساد المقاومة وافراغها من المضمون الوطني بالإصرار على التطييف المناطقي والمذهبي، إضافة إلى تنامي غيبوبة الشرعية واستمرارها بلا أفق، وكذا تنامي تجاذبات مصالح الدول المهيمنة التي تحدق في الصراع وتبتسم لارباكات الجميع، كما لإتجاههم ناحية التيه فقط.
ومن هنا، يجب استيعاب أهمية أن تقود الحرب إلى السياسة قبل أن تنفرط الأمور من يد الجميع نهائيا، كما ينبغي من الحرب ألا تعالج المشكلة بمشكلة حين تنتهي. بل لقد صار لزاما علينا استيعاب أن قدرنا الذي لا مفر هو أن نروض المستحيل، من أجل تحقيق حلمنا المستقبلي الجمعي المتمثل في سيادة وانبعاث دولة القانون والتقدم، وأن نجابه كل التحديات بشكيمة وطنية باسلة لا تعرف الارتهانية لإستغلالات الخارج ولا لإستبدادات الداخل، على ان يكون بيننا والخارج مصالح شفافة مشتركة تصب في تنمية البلد وارتقاءه، وأما الهموم الجامعة فلابد أن تصب في صالح جبر ضرر الشعب من الحرب، وكذا إعادة الإعتبار للشعب بصفته مالك السلطة ومصدرها!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.