كتابات خاصة

الأرواح الخالدة

أحمد الرافعي

تختنق روحك بالبكاء وأنت تستعيد كم كانوا مليئين بالنبل في حركتهم على الأرض، وكم كانت عِشرَتهم تفوح منها رائحة اللطف والخلق الحسن. لماذا يتحول الشهداء إلى أساطير في تاريخ الشعوب التي تقود معاركها بحثاً عن الحريه؟
يُجلجل في أرجاء الروح صوتهم الواضح الذي لا تهزه ارتعاشة الخوف، وتتحول سيما وجوههم مساحات من نور تضيئ العتمة.
تختنق روحك بالبكاء وأنت تستعيد كم كانوا مليئين بالنبل في حركتهم على الأرض، وكم كانت عِشرَتهم تفوح منها رائحة اللطف والخلق الحسن.
يقول الناس: يرحل الاخيارُ، ويبقى السيئون.. وهل غير الأخيار يفتح لهم صاحب الجلالة  حَضرته!
وهل غيرهم  يغرس أوتاد الجمهوريات في قلب الأرض، عتيةً في وجه كل الأعاصير.
تمضي سنة الله أن من خلقه من لا تليق بهم سوى خاتمة سوية، كخاتمة  الشهادة..
الشهادة هي آخر مطاف الحياة البالغة النقاء والعطاء.. 
الذين عرفوا نايف يدركون كيف كانت خياراته واضحة نصب عينيه.
ويتذكر أبناء دائرته الإنتخابية في العام 2001 حين بقي مركز المنار الانتخابي (موطن الشهيد) وتعمّد الطرف الآخر تأخير فرز الأصوات فيه، وكانت المؤامره تُدبَرُّ أن تنهب صناديق الاقتراع الثلاثة المتبقية في الليل، وتُزَوَّر إرادة أبناء المنطقة..
أتذكرُّ أن الشهيد وقف بعنفوانه المعهود ليقول: “ماحناش رجال لو خرجت الصناديق من منطقتنا”، فكان ما أراد، وفازت إرادة الناس وفازت الرجولة.
لا يرضى العظماء أن يمرَّ الزيف وهم من طريقٍ واحد.
إما نحن وإما الزيف. هكذا عاش نايف الجماعي، ملتزماً بالرجولة ومحاربة الزيف..
يعرف نايف معاني الكلمات جيداً؛ ويسعى ليثبت كيف أن الأوصاف يترجمها سلوك صادق..
 الرجولة وقفةٌ واثقة.. والوطنية انحياز واضح.. والجمهورية عهد الآباء للأجداد؛ وأمانة نحفظها للأجيال القادمة.
التدين سلوك فاعل وحركة واعية تدفع المنكر عن حياة المجتمع، وأولها منكرات السياسة.
والشعر والأدب التزام بمعاني الخير والجمال والحياة السوية.
في ساحات فبراير المنتشرة في أنحاء الجمهورية وقف الشهيد على منصاتها يلهب أرواح  الجماهير الثائرة بمعاني الكرامة والتحرر من ربقة الإستبداد، ويرسم بكلماته أحلام الناس بالمستقبل الجميل.. وحين جاءت الكارثة السلالية لتجرف التاريخ اليمني، اصطف الشهيد خلف الوطن المغدور يسند ظهره، ويسقيه من دمه..
في الضالع اقتنصته رصاصاتهم وفتحت أرض الضالع ذراعيها لفتى الشمال، وهل يعترف الدمُّ الصادق بجغرافيا التمزيق بين أبناء الوطن الواحد!
 قِلةٌ من الخلق من  يمكن التنبؤ بانحيازاتهم واختياراتهم مسبقاً.
ولا تقف أشياء مثل الاحتفاظ بالزوجة والأبناء والراتب المجزي والوجاهة والسيارة الفارهة والحياة الخاوية من معاني الترفع والسمو، أمام اندفاعاتهم في وجه الأخطار تلبية لنداء الواجب
والتجرد الخالص لوجه الله والأوطان..
هل كان ابنُ جبل المنار يرضى بخيار الطأطأه والسكوت؟!
وهل  تقوى كل امتيازات الدنيا، أن تشدَّ النفوس العظيمة نحو جواذبها الفانية؟
تلقي ذكرى الشهيد ظلالها على كل تفاصيل الحياة المبثوثة، فتغدوا الجمادات نُصُبُ ذكرى في متحف الشهادة؛ وتحمل هذه النُصُبُّ من ألق الشهيد ما يمنحها الخلود.
حَجَرٌ لا يساوي شيئاً ملقىً في جبل المنار
مرَّ عليه آلاف الرجال..
 وشهد ملايين الأيام التي تخطته وهو مهملُ الذِّكرى، لكنه يغدو أحد الابطال في قصة التضحية.
ستقول الأجيال القادمة عنه:
على هذا الحجر جلس الشهيد نايف الجماعي، وهناك رقص البرع، وهنا التقط مع رفاقه الصور، وفي هذا البيت كان ضيفاً للغداء، في هذه الزاوية من المسجد ترنم بآيات القرآن؛ وهذا الحقل الذي ترعرع فيه الشهيد.
وهنا ضحك الشهيد وألقى نكاته المستهترة في وجه الخوف والفزع؛ وهذا بيته الذين دمره الحوثيون.
وستصبح هذه الأحجار المتناثرة هي الذكرى الأكثر تماسكاً التي سترويها سيرة الشهيد.. 
ولن تملَّ من ترديد هذه الكلمات لأبنائك وقد أشرق فجر الجمهورية الثانية:
(إن أرواح الشهداء يا أبنائي هي من منحتنا السكينة، وعجلَّت بذهاب الليل)..
وسيتنفس اليمن صباحاته القادمة من رئة الشهداء..
على أطفالنا سنطلق اسم الشهيد..
ولن يخفت صوت أجيالنا القادمة، وهي تنشد مع عصافير البكور
(واذكري في فرحتي كل شهيدِ)
وفي مناهجنا ستتصدر صور الشهداء فواتح الكتب.
سنسمّي الطرقات بأسمائهم وقاعات الثقافة والعلم والملاعب ومعارض الفنون ومتاحف التاريخ. ولن يكون تاريخ استشهادهم يوماً عادياً ككل الأيام.
بل يوم من أيام الله والوطن.
من جهة الشرق لـ”إب”، يقف جبل المنار شامخاً، منذ آلاف السنين.
ومن جهة الشرق أيضاً تبزغ الشموس.. شموس على هيئة رجال..
 رجال رحلوا، وتركوا لنا النور والدفء
وصباحات تأتي رغم أنف الليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى