كتابات خاصة

شهادة المرأة

 

يقول تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة:282].

لفهم مسألة شهادة المرأة في هذه الآية نحتاج إلى التوقف عند أربع نقاط متعلقة بالمسألة:

أولا: لا بد أن نفهم أن الشروط التي تراعى في الشهادة ليست عائدة إلى وصف الذكورة والأنوثة في الشاهد؛ وإنما مردها إلى عدالة الشاهد وضبطه، وأمن إيذائه أو التحيز له، ومدى أهليته للشهادة في الواقعة ودرايته بها.

وما يؤيد هذا أن الآيات الأخرى التي تتكلم عن الشهادة كان طلب الشهادة فيها مطلقا بلا تقييد يفرق بين شهادة الرجل والمرأة، فآيات اللعان مثلاً جاء لفظ الشهداء مطلقا بلا تقييد، يقول تعالى (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء﴾، وهذا يعني أي شهداء سواء ذكورا أو إناثا أو خليطا منهما، وقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله)، جاء الأمر عاما للرجال والنساء بشهادة اثنين، كما أن الأيمان الأربعة التي يؤديها كل من الزوج وزوجته تنزل منزلة الشهادات الأربع التي تثبت الزنا، مكافئة لقيمة الشهادات الأربع التي تنكرها. وهو الأمر الذي يؤكد أن الأنوثة والذكورة بحد ذاتهما لا دخل لأي منهما في قيمة الشهادة.

ثانياً: وهو الأهم في فهم الآية أنه لا بد من التفريق بين “الشهادة” التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين، وبين ” الإشهاد” الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دينه.

هناك خلط بين ” الشهادة” و” الإشهاد” الذي تتحدث عنه هذه الآية ؛ فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها، وإنما معيارها: تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة، بصرف النظر عن جنس الشاهد، ذكرا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود، فللقاضي -إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة- أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد، أو امرأة واحدة، ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة، التي يحكم بها القضاء بناء على ما تقدمه له من البينات.

أما آية سورة البقرة التي يقول الله عز وجل: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء﴾ [البقرة: ٢٨٢] فإنها تتحدث عن أمر آخر غير ” الشهادة” أمام القضاء.. إنها تتحدث عن (الإشهاد) الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دينه، وليس عن “الشهادة” التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين، فهذه الآية موجهة لصاحب الحق -الدين- وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق -دين – ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدين، وإنما توجهت بالنصح والإرشاد -فقط النصح والإرشاد -إلى دائن خاص، وفي حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية. فهو دين إلى أجل مسمى، ولا بد من كتابته، ولا بد من عدالة الكاتب، ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة، ولا بد من إملاء الذي عليه الحق، وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل، والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين، أو رجل وامرأتين من المؤمنين، وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة، ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة، وليست هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة ولا في المبايعات.

والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما. وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة، أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل، لا يثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضي، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو “البينة”. فالآية ترى هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم، وذلك لا ينفي أخذ المستوى الأدنى من القسط. وقد فصل في هذه النقطة الدكتور محمد عماره في بحث خاص وذكر كلام ابن تيمية وابن القيم في المسألة.

ثالثا: العلة في الحث على الاستشهاد في هذا الموطن بامرأتين دون المواضع الأخرى، هو زيادة التوثيق في مسألة ليس للمرأة معرفة فيها، فربما ضعفت فيها الشهادة، وهذا يعني أن العلة هي الخبرة بالشيء، فمن خبر الشيء كانت شهادته أقوى، ولذا قيل: إن المرأة حينها ليس لها اشتغال كثير بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة نتيجة نقص علم وخبرة، ولا تكون كذلك في الأمور التي عندها علم وخبرة، وهذا يعني أن من طبع البشر ذكورا وإناثا أن يقوي تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها.

رابعا: هناك حالات تكون شهادتها أهم من الرجل، كما في بعض الأمور الخاصة بالنساء، فتشهد هي ولا يشهد هو.

 

الفرق بين الشهادة والإشهاد:

يقول الدكتور محمد عمارة: “ومصدر الشبهة هو الخلط بين ” الشهادة ” وبين ” الإشهاد ” الذي تتحدث عنه هذه الآية الكريمة.. فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة بصرف النظر عن جنس الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود.. فالقاضي إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد أو امرأة واحدة.. ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التي يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له من البينات.. أما آية سورة البقرة، والتي قالت: [واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى] فإنها تتحدث عن أمر آخر غير” الشهادة ” أمام القضاء.. تتحدث عن ” الإشهاد ” الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه، وليس عن ” الشهادة ” التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين.. فهي – الآية – موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع.. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدَّيْن.. وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط النصح والإرشاد إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.. فهو دين إلى أجل مسمى.. ولابد من كتابته.. ولابد من عدالة الكاتب. ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة.. ولا بد من إملاء الذي عليه الحق.. وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل.. والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين.. أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة.. ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة.. وليست هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة.. ولا في المبايعات.. ثم إن الآية ترى في هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم.. وذلك لا ينفى المستوى الأدنى من القسط.. ولقد فقه هذه الحقيقة حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن ” الإشهاد” في دَيْن خاص، وليس عن الشهادة.. وإنها نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّيْن ذي المواصفات والملابسات الخاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضي الحاكم في المنازعات.. فقه ذلك العلماء المجتهدون، ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم من القدماء، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والإمام الشيخ محمود شلتوت من المحدثين والمعاصرين”( ).

وقال عمارة: فطرق الإشهاد، في آية سورة البقرة التي تجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد هي نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّين ذي الطبيعة الخاصة، وليست التشريع الموجه إلى الحاكم القاضي والجامع لطرق الشهادات والبينات، وهي أيضاً خاصة بدَيْن له مواصفاته وملابساته، وليست التشريع العام في البينات التي تُظهر العدل فيحكم به القضاة.

وقد فصّل ابن تيمية القول في هذه المسألة عند حديثه عن التمييز بين طرق حفظ الحقوق، التي أرشدت إليها الآية صاحب الحق في الدَّين، وبين طرق البينة، التي يحكم الحاكم القاضي بناء عليها.. وأورد ابن القيم تفصيل ابن تيمية هذا تحت عنوان [الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه]، فقال:

“وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. فأمرهم، سبحانه، بحفظ حقوقهم بالكتاب [أي الكتابة]، وأمر من عليه الحق أن يملى الكاتب، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان، ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طُلبوا لذلك، ثم رخّص لهم في التجارة الحاضرة ألا يكتبوها، ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع، ثم أمرهم إذا كانوا على سفر ولم يجدوا كاتباً، أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.

كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به الحاكم [القاضي] شيء، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهد والمرأتين، فإن الحاكم يحكم بالنكول، واليمين المردودة ولا ذكر لهما في القرآن، فإن كان الحكم بالشاهد الواحد واليمين مخالفا لكتاب الله، فالحكم بالنكول والرد أشد مخالفة”. الطرق الحكمية ص64.

وقال ابن القيم: “وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يحكم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين؛ فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق: أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحكام: أن يحكموا به، فضلا عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن، وبمعاقد القمط، ووجوه الآجر، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن. فإن كان الحكم بالشاهد واليمين مخالفا لكتاب الله، فهذه أشد مخالفة لكتاب الله منه، وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفة للقرآن، فالحكم بالشاهد واليمين أولى ألا يكون مخالفا للقرآن. فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيء آخر، وليس بينهما تلازم، فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله”. الطرق الحكمية 116.

وقال: “فإن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين، وأنه لا يقضى بهما إلا عند عدم الشاهدين. قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها”. الطرق الحكمية 126.

وقال: “وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشد إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق”. الطرق الحكمية ص136.

وقال ابن القيم في كتاب إعلام الموقعين: “فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه، لا في طريق الحكم وما يحكم به الحاكم، فإن هذا شيء وهذا شيء”. 1/72. وقال: وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك. 1/72. وقال: فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق. 1/73.

وقال: “قال تعالى في شهادة المال {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال في الوصية والرجعة {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] لأن المستشهد هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه، فإن لم يكن عدلا كان هو المضيع لحقه، وهذا المستشهد يستشهد بحق ثابت عنده، فلا يكفي رضاه به، بل لا بد أن يكون عدلا في نفسه، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال هناك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه. 1/74.

وقال الشيخ شلتوت: إن قول الله سبحانه وتعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) ليس وارداً في مقام الشهادة التي يقضى بها القاضي ويحكم، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) إلى أن قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها. والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهم. وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل، لا يثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضي، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو ” البينة “. وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة، وأن كل ما يتبين به الحق ويظهره، هو بينة يقضى بها القاضي ويحكم. ومن ذلك: يحكم القاضي بالقرائن القطعية، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها. الإسلام عقيدة وشريعة ص239.

[2] الحكمة في المسألة:

يقول عماره: “إن نسيان المرأة، ومن ثم حاجتها إلى أخرى تذكرها ليس طبعًا ولا جبلة في كل النساء، وليس حتمًا في كل أنواع الشهادات، وإنما هو أمر له علاقة بالخبرة والمران، أي أنه مما يلحقه التطور والتغيير”.

وقال: فحتى في الإشهاد، يجوز لصاحب الدَّيْن أن يحفظ دَينه وفق نصيحة وإرشاد آية سورة البقرة بإشهاد رجل وامرأة، أو امرأتين، وذلك عند توافر الخبرة للمرأة في موضوع الإشهاد، فهي في هذا الإشهاد ليست شهادتها دائماً على النصف من شهادة الرجل.

وقال ابن القيم: قال شيخنا ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط”. الطرق الحكمية 127.

وقال: ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هي في التحمل، فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع. 1/75.

وقال عمارة: وقد أرجع الشيخ محمد عبده تميز شهادة الرجال على هذا الحق الذي تحدثت عنه الآية على شهادة النساء، إلى كون النساء في ذلك التاريخ كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات، ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات في هذه الميادين، وهو واقع تاريخي خاضع للتطور والتغير، وليس طبيعة ولا جبلة في جنس النساء على مر العصور، ولو عاش الإمام محمد عبده إلى زمننا هذا، الذي زخر ويزخر بالمتخصصات في المحاسبة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وب ” سيدات الأعمال ” اللائي ينافسن ” رجال الأعمال ” لأفاض وتوسع فيما قال، ومع ذلك، فحسبه أنه قد تحدث قبل قرن من الزمان في تفسيره لآية سورة البقرة هذه رافضاً أن يكون نسيان المرأة جبلة فيها وعامًّا في كل موضوعات الشهادات.

يقول محمد عبده: “تكلم المفسرون في هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها ” تفسير المنار 3/114.

وقال الشيخ شلتوت: واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذي يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثراً له، وإنما هو لأن المرأة كما قال الشيخ محمد عبده ” ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها. والآية جاءت على ما كان مألوفاً في شأن المرأة، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضى به طبيعتها في الحياة. وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه. هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهي القضايا التي لم تجر العادة بإطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة والبكارة، وعيوب النساء والقضايا الباطنية. الإسلام عقيدة وشريعة ص240.

يقول عمارة: هكذا وضحت قضية مساواة شهادة المرأة وشهادة الرجل، طالما امتلك الشاهد أو الشاهدة مقومات ومؤهلات وخبرة هذه الشهادة، لأن الأهلية الإنسانية بالنسبة لكل منهما واحدة، ونابعة من وحدة الخلق، والمساواة في التكاليف، والتناصر في المشاركة بحمل الأمانة التي حملها الإنسان، أمانة استعمار وعمران هذه الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى