وحدها الثورات لا تشيخ، هي رُوح وثابة، تتجدد ما تجدد الظلم، وتنتصر ما توفرت الإرادة، يُحدثنا التاريخ كثيراً أن الثورة ـ أي ثورة ـ لا تحظى في بدايتها بالدعم المُحفز للاستمرار، وأن الثوار أنفسهم يكونوا عُرضة للتآمر والاحتقار. وحدها الثورات لا تشيخ، هي رُوح وثابة، تتجدد ما تجدد الظلم، وتنتصر ما توفرت الإرادة، يُحدثنا التاريخ كثيراً أن الثورة ـ أي ثورة ـ لا تحظى في بدايتها بالدعم المُحفز للاستمرار، وأن الثوار أنفسهم يكونوا عُرضة للتآمر والاحتقار، من القريب قبل البعيد، إلا أنها مع مرور الوقت، تُصبح سلوك مُعدي، وظاهرة مُجتمعية، عصية على التشويه والانكسار.
من الوهلة الأولى لاندلاع ثورة «26سبتمبر1962»، هب أبناء ردفان كغيرهم لمساندتها، كان «لبوزة» الاسم الأشهر في تاريخنا النضالي في الصفـوف الأولى للمواجهة، وبقرار اتُخذ من صنعاء، اشتعلت جبال ردفان بالمقاومة، وبالفعل كانت تلك الثورة نواة الكفاح المُسلح، والقاصمة التي أجبرت المُحتل على المُغادرة.
تعود المُقدمات النضالية لأبناء ردفان إلى العام «1881»، رفضوا عام ذاك الضرائب الجائرة التي فُرضت عليهم، أرسل المُحتل بحشد من عساكره لتأديبهم، تصدى الثوار لهم ببسالة، وشهدت سائلة «حروبة» فصول تلك المواجهة، أذعن الانجليز حينها للأمر الواقع، وطالبوا بالحوار.
بعد تلك الواقعة بـ «61» عاماً «1942»، قام أبناء ردفان بانتفاضة أخرى، تولى الثائر راجح لبوزة مهمة قيادتها، نجح بالهجوم على ثكنة عسكرية في «جبل الحمراء»، تمكن من القضاء عليها، ذاع حينها صيته، وصار «الجمَّال» النحيل، الذي أمتهن جلب الحبوب من الضالع وقعطبة، بطلٌ لا يشق له غبار.
أواخر «مارس1963»، هبَّ أكثر من «300» مُقاتل ردفاني لمساندة الثورة السبتمبرية، على مجموعتين، كان قتالهم في جبال حجة مُشرفاً، وفي قريتي «الوعيل» و«مفتاح» سجلت مجموعة «لبوزة» أروع انتصاراتها، شهداء وجرحى كُثر سقطوا منهم، ليعودوا بعد ثلاثة أشهر إلى صنعاء، بعد أن أعلن من هناك عن تأسيس «الجبهة القومية»، أصدرت ذات «الجبهة» بيانها التحرري، كان «لبوزة» من جملة الموقعين عليه، التقى بعدها وأصحابه بالرئيس السلال، وقحطان الشعبي، تم الاتفاق على فتح جبهة في ردفان، على أن يتولى «هو» قيادتها.
عاد الثوار إلى ردفان نهاية «أغسطس1963»، وحين علم «ني ميلن» الضابط السياسي بذلك، أرسل إلى «لبوزة» ومجموعته، وطلب منهم تسليم أنفسهم وأسلحتهم، ودفع «500» شلن غرامة على كل فرد، كضمانة لعدم عودتهم إلى الشمال، رد «لبوزة» عليه برسالة قوية، أرفقها بـ «طلقة رصاص»، وفيها قال: «لم نعترف بكم ولا بحكومة الاتحاد المزيفة، وان حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية، ونحذركم من اختراق حدودنا».
استشاط الضابط الانجليزي غضباً، تقدم في اليوم التالي صوب ردفان، فما كان من الثوار إلا أن تمترسوا فوق «جبل البدوي» المُطل على «الحبيلين»، لتدور في صبيحة يوم الاثنين «14أكتوبر1963» مواجهات عنيفة بين الطرفين، انتهت قبل أن ينتصف ذلك النهار، بسقوط «لبوزة» شهيداً، عن «64» عاماً.
أذاعت إذاعتي صنعاء والقاهرة النبأ الفاجعة، تعاهد الثوار فوق قبر الشهيد على مواصلة المشوار، فيما اعتبرت الكيانات الجنوبية المُسلحة تلك اللحظة بداية الكفاح المسلح، وأصدرت «الجبهة القومية» بيان حماسي، أكدت فيه مواصلة النضال.
حكومة الاتحاد أصدرت من جهتها بيان طويل، جاء فيه: «أن فرقة مؤلفة من الجيش والحرس الاتحادي تعرضت لنيران رجال العصابات، بقيادة الرجعي المُفسد راجح لبوزة، ولم يصمد أتباع اللص أمام القوات الاتحادية المدربة تدريباً عالياً، التي أرغمتهم على الفرار».
إمكانيات الثوار كانت ضئيلة جداً، ولذات السبب توجه عدد منهم إلى الشمال، طلباً للدعم والمساندة، وكان أول دعم يتلقونه عبارة عن ذخائر والغام، تم نقلها إلى مقر قيادتهم على الأكتاف، وهي عملية عرفت بـ «صلاح الدين»، كانت مسنودة من مصر، ومقرها تعز.
سعى الانجليز لكبح الثورة في مهدها، قاموا خلال العام «1964» بخمس عمليات كبيرة، شارك فيها آلاف الجنود، وعدد كبير من الدبابات والطائرات والمدفعية، أطلقوا على حملتهم الأولى «نتكراكر»، بمعنى «كسارة جوز الهند»، والثانية «رستم»، سيطروا فيها على «وادي تيم» و«وادي ذنبه»، نجح الثوار في استعادتهما، وقتل عدد من الجنود، أعلنت إذاعتي صنعاء والقاهرة نبأ ذلك الانتصار، اغتاظ الانجليز، قصفوا حريب، وهو التعدي الصارخ الذي أثار سخطاً عاماً في الصحافة البريطانية، وهيئة الأمم.
بعد فشل الحملتين، قام الانجليز بحملة كُبرى، بقيادة المأجور جنرال «جون كابون»، القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من تمركز قوات «الكومندوس» فوق الجبال المُطلة على «وادي تيم» و«وادي ذنبه»، وتهجيرها للسكان، استمر الثوار بمناوشتهم وتكبيدهم الكثير من الخسائر، قرر الانجليز حينها القيام بحملة رابعة، دارت معركتها الرئيسية في قرية «القطيشي»، ليسقط بعدها «جبل البكري» كاملاً.
في حملتهم الخامسة تمكن الانجليز من السيطرة على جبل «الحورية»، أعلى قمة في ردفان، كما شنوا هجمات فجائية على «وادي تحلين» بهدف قطع طرق القوافل المُحملة بالذخائر والمؤن من الشمال، تصدى لهم الثوار ببسالة، تمكنوا من اسقاط «هيلوكبتر»، وإعطاب طائرتين.
أضطر حينها وزير الدفاع البريطاني «دنكن ساندر» أن يأتي لجبال ردفان، في عزّ شهور الصيف، محاولاً رافع معنويات جنوده المنهارة، كما اضطرت الحكومة البريطانية أن تستقدم بعض جنودها من جنوب افريقيا وإيرلندا، ولقوة وبسالة الثوار كانت الصحافة البريطانية تطلق عليهم: «الذئاب الحمر».
عقد مجلس العموم البريطاني جلسة خاصة لمناقشة تداعيات ذلك الوضع، وذكر أحد المؤرخين ـ حضر تلك الجلسة ـ أن أعضاء المجلس تحدثوا عن صمود أبناء ردفان، وتسأل أحدهم: كيف لم تستطيع قواتهم المزودة بأحدث العتاد العسكري من تأديب «500» مُتمرد، وكيف لم تتمكن «1700» غارة جوية من ضرب مواقعهم؟!، وعلق ساخراً: «لقد أقاموا متحفاً أطلقوا عليه متحف الرؤوس البريطانية، لكثرة قتلانا هناك».
لم يسترح ثوار ردفان لحظة، تمكن الانجليز نهاية العام «1964» من تضييق الخناق عليهم، تمترسوا في المرتفعات الوعرة، الصعبة المسالك، ظلوا أياماً بلا ماء ولا طعام ولا ذخيرة، حتى الهواء لم يكن سوى غلالة كثيفة من رائحة البارود، ازدادوا قوة وصلابة، لم يتزحزحوا عن مواقعهم قيد أنملة، تغلبوا على جميع المعوقات، وأثبتوا للجميع أن الثورة مُستمرة، وأن بريطانيا يمكن هزيمتها.
تأكد حينها للقاصي والداني نُبل مطالب الثوار، وقوة شكيمتهم، وقسوة المُحتل، وحقارة عملائه، خاصة بعد أن مارس الأخيرين جرائم حرب شنيعة في حق ردفان وأبنائها، سمموا الآبار، وزرعوا الألغام، وقصفوا المنازل، وتسببوا بكارثة إنسانية فظيعة، نزح بسببها آلاف المواطنين إلى الضالع، وماوية، وعدن.
وفي عدن وقف أحد السياسيين الجنوبيين يتأمل أفوج النازحين، قال مُتهكماً: «هذا ما جنته ردفان من الكفاح المسلح»، وماهي إلا أيام قلائل حتى ضجت شوارع المدينة بالثورة، ولم يكد ينتهي العام «1965» إلا وهناك «12» جبهة مفتوحة في أرياف الجنوب، ساهمت عمليات عدن الجريئة في تخفيف الضغط عليها، وصارت «ردفان في فم كل ثائر»، حسب أغنية شهيرة لـ «المرشدي»، لتكلل تلك التضحيات برحيل المُحتل نهائياً، «30توفمبر1967».
الثورة قضية صادقة، وفعل مُستمر، وهي قبل هذا وذاك، انسان حر، يُضحي دون مَن، وجُغرافيا صامدة، تختزل الوطن، وكما لكل صمود ضريبة، فإن لكل انتصار ثمن، وإذا كانت «14أكتوبر1963» ثورة ردفان، فإن «11فبراير2011» ثورة تعز، واجهت الأولى أعتى احتلال، وتواجه الأخيرة أقبح احتلال، وكما انتصرت ردفان، ستنتصر تعز، وهو انتصار محسوب لكل اليمن، والتاريخ يقول: أصحاب الأرض باقون، والغُزاة دوماً إلى زوال.