هل تريدونني أن أحفر الأرض من صنعاء إلى حيفا؟
ضياء العزاوي
كنتُ في غرفتي، بينما هو يحاول أن يزيح نفسه نحو غرفة مجاورة. صغيرة جدّاً الغرفة التي استهدفها للاختباء، لم تبلغ المتر المربع، وكانت أقرب ما تكون إلى غرفةٍ أُنشئت لهذا الغرض بالذات. استند إلى كوعيه، وصار يسحب نفسه إلى الخلف، وصدرُه ينزّ بالمصل وسوائل صفراء، كأنّها عسل أحشائه. لم يكن يئنّ حتى، كان يجترّ ألمه اجتراراً، ثم أومأ إليّ أن أذهب بعيداً، ولم يكن في يديَّ شيءٌ لأفعله، أو لنقُل هكذا كنت أعتقد، لكنّي ساعدته على الاختفاء عنّي حين خطوتُ خطوتَين إلى الخلف.
هكذا كنت أعتقد أنّني أساعده، أحمي له خصوصية الموت على الأقلّ. لكنّي، حينما وضعت رأسي على الوسادة، شعرتُ أنّ أنينه المدفون صار يتسرّب عبر أرض البيت إليّ، انتقل عبر موجات من الحزن، وصلتني، وتداخلت مع أحلامي، وصرتُ أقول في حلمي: أمات أم ما زال يتعذّب؟
ثمّ في الحلم نفسه، نهضت من فراشي، ورحت أحمله إلى الباحة، كان معي مجرف صغير، بحجم كفّ اليد، وصرت أضرب الأرض الطينية به. ساعدتني رطوبة الأرض على الحفر. العرق يقطر من جبهتي التي في الحلم وجبهتي التي في الحقيقة. وحين جئت أضعه داخل الحفرة، شعرت أنّ موجة من الحزن مثل تلك التي أعرفها قد استقبلتها للتوّ، تحرّكت من إصبعي حتى ذراعي ثمّ رقبتي، وشعرتُ أنّ الموجة صارت تطوّقني، فتردّدت كثيراً في أن أضعه في الحفرة. كنت أحمله بين يدي، وأقول: سأشارك في قتل أخي، هل استعجل موته الآن؟
وتذكّرت أنّه في السنين التي قبل هذه، ربما في عام 2003، كان قد تركني أمرّ بذلك نفسه، ثمّ في آخر لحظة آمن أنّني على قيد الحياة، وهكذا نجونا. لذا قرّرت، وأنا داخل حلمي، وبكامل الإرادة الحرّة التي يمنحها لك الحلم في فعل ما تفعله، أن أحمله بعيداً عن الحفرة الرطبة. وضعته في حجري، وقلت بيني وبين نفسي: سننجو معاً.
إلّا أنّني صحوت الآن على صوت التلفاز، أُشاهد رمال غزّة الرطبة بالدم، وصار صوتي يتعالى من دون أيّ إحساس أو وعي بما أقوله، وكأنّما شعرتُ أنّ العالم كلّه يضغط بكفّه على رأسي، ويأمرني بالاستمرار، فصرخت صراخاً مميتاً: ماذا تريدون، تخيّرونني بين الموت أو أن أحمل معولي، وأحفر في رمال غزّة الرطبة؟
المصدر: العربي الجديد