كتابات خاصة

شاهد على نهب صنعاء (2-3)

معاذ المقطري

ارتخت القبضة المحكمة لثورة 17 فبراير 1948، فكانت “مدام فيفر” مجسها وشاهدها المحايد الأوحد!

ارتخت القبضة المحكمة لثورة 17 فبراير 1948، فكانت “مدام فيفر” مجسها وشاهدها المحايد الأوحد!
وكان زوجها رئيس البعثة الطبية الفرنسية قد توفى وطواه الإمام يحي حميد الدين تحت قبة باردة في بير العزب، وقد كان ذلك قبل أشهر معدوده من  توجه هذا الإمام العجوز إلى ضريحه مضرجاً بدمائه وقد دفنه “ابن الوزير” بطريقة سرية وبلا قبة.
فالثورة التي أدخلت الأمير عبد الله الوزير إلى قصر غمدان ملكاً دستورياً متوجاً لليمن، أطاحت بالإمام العجوز يحي حميد الدين، فيما تركت صيدها “السمين” يفلت! ألا وهو ولي عهد المملكة المتوكلية أحمد حميد الدين، صانع الثغرة التي اتسعت بما يكفي لنفاذه قبل أن تتسع شيئا فشيئا لجحافل القبائل التي عاد هذا السمين يجرها خلفه من  “باب الشقاديف” وعصف بقصر غمدان.
وأمام “مدام فيفر” صارت صنعاء والجبال المحيطة بها مسرحاً مثالياً لشد الحبل بين فريقين:
يقف الفريق الأول متماسكا داخل أسوار صنعاء القديمة وقصر غمدان بقيادة الجنرال العراقي جمال جميل مسنودا بالملك حديث التتويج عبد الله الوزير، وتحالف أوسع للنخبة اليمنية..
وأما الفريق الثاني فقد بدا متأهبا للهجوم متمركزاً على الجبال المحيطة بصنعاء بقيادة الأمير أحمد، وقد أضحى مسنودا بجحافل القبائل التي لجأ اليها وأيدته تأييدا مطلقاً.
وأما مدام فيفر الشاهد على ما كان يجري فتقول:
في 24 فبراير 1948، “وجد الإنقلابيون أنفسهم محاصرين في صنعاء بعد أن انضمت جماعة من أفراد الجيش خارج صنعاء إلى أحمد”.
وقد كان من السهل عليّ رؤية جحافل الإمام أحمد وهي تتمركز فوق الجبال المحيطة بصنعاء..
وأما طلقات الرصاص المصوبة من الجبال إلى الأسوار، فقد ظلت تلعلع بلا توقف، لكن الأسوار المصنوعة من الطين المجفف كانت كفيلة بصد تلك الطلقات التي لم تحدث سوى فوهات صغيرة بحجمها”.
على أن التململ أخذ يدب في صفوف ثورة النخبة اليمنية خلف تلك الأسوار، وكأنها لم تحظ بحاضنة شعبية جبارة..
الشيء الذي أشارت إليه قائلة:
حاول البعض التسلل أو الهرب من داخل الأسوار للالتحاق بالجيوش المحيطة بصنعاء، لكن جمال جميل أصدر أمراً عسكرياً يقضي بإطلاق النار على أي فرد يوجد خارج أبواب صنعاء دون سابق إنذار”.
وإجمالاً، عكس هذا الأمر “خوف متفشي بين صفوف الإنقلابيين وإنعدام روح المغامرة بينهم”.
وتتابع مدام فيفر: استمرت الحالة لمدة شهر، وفي يوم 13مارس 1948، تمكن ولي العهد أحمد  من الدخول إلى صنعاء تحت جنح الظلام من “باب الشقاديف”، بعد أن قامت الحامية المكلفة بحراسته من فتحه أمام جحافله القبلية..
ولم يكن من السهل على جحافل القبائل السيطرة على صنعاء، إذ جوبهت بمقاومة شديدة من قصر غمدان الذي كان يتمركز فيه عبد الله الوزير وأنصاره..
ولكن ما أن طلع فجر يوم 14 من مارس 1948، حتى سيق جميع الذين شاركوا في التآمر على الإمام يحي إلى سجن حجة، وقام أحمد بعد تنصيب نفسه إماماً بتعيين شقيقه الحسن حاكماً لصنعاء، كما وضع القصر تحت قيادة شقيقيه العباس ويحي..
وأثناء رصدها للأحداث المروعة ظلت مدام فيفر قادرة على المرح والضحك، فهي وقبل كل شيء قدمت من فرنسا ملهمة الثورات في العالم، لكنها لم تشاهد كالذي حكت عنه في الفقرة التالية:  
يا له من مشهد مسرحي مضحك ومسلٍ في تلك الليلة عندما جاء العسكري المكلف بحراستنا يطلب منا الحصير  القديم وبقايا الملابس، وقام برش الكيروسين عليها مشعلاً فيها النار وقد حدث هذا لبقية منازل صنعاء.
وعندما بدأ المسلحون يطلقون عيارات بنادقهم، غادرنا سطح المنزل وقد أضيئت صنعاء وأصبحت صفارة النصر تسمع بصورة مستمرة.
وعلى الرغم من فرحتنا بهذه النتيجة فإن منظر بعض مآسي النهب والتخريب كانت لا تغيب عن ناظري  حتى اللحظة:
نهب صنعاء القديمة
تقول مدام فيفر:
بعد هزيمة الإنقلابيين شهدنا نهب صنعاء بعد الاستيلاء عليها.. وكم كان رهيباً تحرك تلك المجموعات من القبائل الجبلية لنهب كل ما يقع تحت يدها.
فعلى سبيل المثال كان قد تم قبل الإنقلاب إكمال البناء لمنزل على طريقة الفن المعماري الصنعاني، وفي لحظات هجمت جحافل القبائل بفؤوسها وفي سويعات تحولت تلك التحفة الفنية إلى قطعة من الأرض ولم يبق فيها إلا بقايا الخراب والدمار بعد أن نهب القبائل حتى الأبواب والنوافذ..
وتتابع: وقد تجلت بشاعة أولئك وهمجيتهم أمام أعيننا عندما لجأت مجموعة من النسوة إلى منزلنا خوفا من أن يجردن من الملابس، وذلك بعد أن قاموا بسلبهن كل شيء حتى عقود الزينة والخواتم..
وإلى جانب هذه الصورة المظلمة، كانت هناك توالت أمامها صور مضحكة وذلك عندما قدم لها حارس منزلها هدية كان قد قام بنهبها وهي عبارة عن ختم جهة رسمية مع أوراق الكتابة..
وهنا علقت قائلة: “نصحنى الأصدقاء بقبولها كتعبير عن العلاقات الطيبة”!
ومن الصور المضحكة أيضاً تلك المعارك الجانبية التي كانت تدور بين المغادرين لصنعاء بعد أن تم لهم تحميل جمالهم وحميرهم بما نهبوه، وأولئك القادمين في وقت متأخر، ولم يجدوا ما ينهبونه، وذلك بهدف تقسيم المنهوبات!!
بعدك عن أناس كنت تعرفهم وتتعامل معهم لفترة سيثير مشاعرك وسيدفعك إلى تفقد أحوالهم خاصة وأنت تعلم بأنهم تعرضوا لتلك الأحداث.. وقد كان هذا حال مدام فيفر عندما قامت  بزيارة قاع اليهود ولم تجد إلا بقايا الدمار والنهب.. فتوثق الحالة قائلة ومن خلال حديثي معهم “أي اليهود” اتضح لي بأنهم توقعوا النهب، لهذا فقد قاموا بحفر أماكن عميقة استطاعوا أن يدفنوا فيها كل ثمين وقد إنطلت هذه الحيلة على رجال القبائل..
وأما الصديق  الحميم  فلم يستخدم تلك الطيارة ذات المقعدين التي ركنها في فناء منزله بل نهبوه كليا..
وتواصل  مدام فيفر تهكمها حياله قائلة:
أما صديقنا كبير مهندسي كبار المهندسين في المملكة فقد إضطر أن يلجأ إلى منزلنا بعد أن نهبوا منزله، وحكى لنا أن مجموع ما فقده من نقود يقد بـ2-3 مليون ريال عمله ورقية “!!” وهو كل ما جمعه”.
وتواصل تهكمها قائلة: وأثناء إقامته معنا كان يذهب إلى منزله ليفقد ما تبقى فيه ولا يعود إلا وقد سلبه رجال القبائل شيئا، وقد عاد مرة بدون جاكته ومرة بدون النظارة  لكنه ومع ذلك ظل يعتقد بأن رجال القبائل لا يطيقون منظر الأوروبيين لإعتقادهم بأن لهم علاقة بمقتل إمامهم المحبوب!!
ولا تنسى “مدام فيفر” أن تذكر كيف نجت وطفليها من النهب والسلب الذي حل بصنعاء فتقول:
 غادر  رجال القبائل صنعاء مشبعين بما سلبوه ونهبوه إلى جبالهم الحصينة
اما بالنسبة لي ولأطفالي وكذلك الثلاث العائلات الأوربية التي كانت تسكن في نفس شارعنا فقد قام علينا قبيلي “شيخ” يبدو أن له مكانة بين قومة ورحب بمجموعات القبائل القادمة الى شارعنا وقاموا بإغلاق الشارع الذي نسكن فيه  لإعاقة دخول أي إنسان إلينا ..
وكم كنت سعيدة أن أطفالي لم يضطروا إلى إستعمال تلك القنبلة التي كانو قد قضوا وقتا طويلا في صنعها في قارورة الحبر المستعملة..وأستؤنفت الخدمات البريدية والتلغرافية كما سمح للإجانب المقيمين في صنعاء بإرسال برقيات إلى أهلهم وذويهم ليطمئنوهم على احوالهم ..
 
النهاية المأساوية لقصر غمدان
ظلت مدام فيفر  معنية بمتابعة أخبار الفريق المهزوم في تراجيديا الثورة والثغرة فتقول في مذكراتها :
وبعد أيام قلائل أعدم  عبد الله الوزير وأنصاره في حجة وتم التشهير برؤوسهم لمدة ثمانية أيام ..
أما السائق الذي قاد السيارة التي كانت تقل قتلة الإمام يحي فقد صلبوه أيضا لمدة ثمانية أيام ليبصق المارة في وجهه ويرموه بالحجارة وبعد ذلك تم إعدامه بالسيف ..
وبالنسبة للضابط العراقي جمال فقد تأخر إعدامه لفترة ثم أعدم بالطريقة ذاتها..
الإ أن أفراد عائلته لم يتعرضوا للأذى فقد أحضروا إلى منزل بجوارنا تم وضعه تحت حماية الإمام كما منعوا من مغادرة منزلهم أو إستقبال الزوار ..
ولا تنسى مدام فيفر أن تثنى على سجايا اليمنيين الحسنة فتقول:
وقد إتضح لنا أن اليمنيين لا يعاقبوا الأطفال والنساء بما اقترفه أباؤهم من جرم ولذا لم يصب أي فرد من أفراد عائلة جمال جميل بأذى..
وبعد فترة عادت الحياة الى مجاريها في اليمن، وعادت مدام فيفر إلى باريس.. فيما ظل التاريخ يتكرر!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى