كتابات خاصة

رحلة علاج

طه صالح

أتذكر يوم إصابتي، كيف أسعفت نفسي واستمررت في الجري بعد الإصابة لمسافة قرابة كيلومتر، رغم أنني كنت مصابًا في الرقبة والدم يخرج منها. استمررت حتى أغمي عليّ في عقبة شارع جمال، وأسعفني درّاج ناري لا أعرفه حتى اليوم.

صحوت من الإغماء، وسمعت الطبيب يقول لمن بجانبه: “حالته خطيرة ونسبة نجاته قليلة جدًا، ويبدو أنه لن يعيش.” توقعت حينها أنني ميت، وأن الميت يمكنه سماع الأصوات.

كنت خائفًا من أن أُدفن حيًا، فقد رأيت في بداية الحرب أطفالًا ونساءً يموتون أمامنا ولم نستطع فعل أي شيء لإنقاذهم. في تلك اللحظة، رأيت حياتي تمر أمامي كأنها شريط فيديو مسرّع؛ رأيت نفسي طفلًا وشابًا، وتخيلت نفسي شهيدًا محمولًا على الأكتاف. تخيلت أمي وهي تبكي ولدها الذي بلغ العشرين ومات برصاص الحوثيين. تخيلت أبي، وإخوتي، وأصدقائي. أشياء كثيرة مرّت في عقلي بسرعة، وكأنني أعيش ما يعيشه الموتى في لحظاتهم الأخيرة.

حركت يدي وتأكدت أنني ما زلت حيًا، وأمسكت الطبيب بكل قوتي كي يشعر أنني على قيد الحياة ولا يدفنني حيًا. حاولت أن أكلمه، لكن لساني كان مقطوعًا، وأكثر من نصفه كان خارج فمي.

كلما تذكرت هذا الموقف، أنهار نفسيًا. لو لم أحرك يدي في ذلك الوقت، لكنت الآن مدفونًا حيًا. كانت تجربة مؤلمة مرّ عليها تسع سنوات، وما زلت أعاني منها حتى اليوم.

كثيرًا ما أشعر أثناء النوم أن الرصاص يخترق جسدي من جديد. أعيش مع معاناة الشتاء والبرد والألم الذي يؤذيني كثيرًا في وجهي، ومع تفاصيل أخرى أصبحت جزءًا من حياتي.

من يرى وجهي قد لا يفهم ما أعانيه، خاصة وقت تناول الطعام؛ الألم يجعلني أكتم دموعي أمام الناس كي لا تظهر. أقوي نفسي وأساندها حتى لا أنهار، وأحمد الله كثيرًا أن الإصابة جاءت بهذا الشكل، لأن إصابات الوجه والفك غالبًا ما تكون أشد رعبًا وبشاعة.

عندما أرى الجرحى وحالتهم، أقول لنفسي إنني بخير رغم كل ما أمر به. أنا أفضل حالًا من كثير من الجرحى. لم يُسجَّل اسمي في قوائم الجرحى، ولم أحصل على علاج من الجهات المختصة. أجريت كثيرًا من العمليات على حسابي الخاص، أما آخر عملية فقد أجريتها اليوم بفضل أطباء بلا حدود في عمّان، الأردن.

وجع الليلة أعاد لي ذكريات أليمة، ووددت أن أشاركها معكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى