خيالُ الشِّعر و أناقةُ الفلسفة في المجموعةِ القَصَصِيَّة ( إحساسٌ مُحرَّم)
للكاتب / راجح المحوري.
كتبَت/ أحلام الزَّامكي.
يقولُ ضياءُ الدِّين ابن الأثير في كتابهِ( المثل السائر)
” خيرُ القَولِ ما أسكرَ السَّامِع؛ حتَّى ينقلهُ عن حالتِه، وَ خيرُ الكلامِ ما دخلَ الأُذنَ بلا إِذن، وَ أحسنُ الكلامِ ما عرَفَ الخاصَّةُ فضلَه، وَ فَهِمَ العامَّةُ معناه”
ينبِضُ( إحساسٌ محرَّم) في قلبِ (٢٣٢) صفحة، متضمنةً ( ٢٨) قصةً قصيرة؛ بل (٢٨) روحًا أصابَها وصفُ الرَّافعي :” لا يتَّصِلُ بروحِها شيءٌ إلَّا نبَتَ و اخضرَّ ،ثمَّ نوَّرَ و أزهَر؛ كأنَّ طبيعةَ الجَمالِ خبَّأَت في قلبِها سرَّ الربيع”
” في وطني لا تنبُتُ شجرةُ الصَّبَّارِ نتيجةَ انفلاقِ بذورٍ عاديَّة؛ بل نتيجةَ أحلامٍ سقطَت في الأرضِ على شكلِ قطراتٍ مالِحة”
يقول الكاتبُ في تصديرِ مجموعته.
ليسَ من عادتي التَّكهُّن بمستوى ما أقرأ من اسمِ الكتاب ،ولا من غِلافِه ، ولا حتى من أوائلِ صفحاتِه؛ لكنَّ هذه المجموعة كانت عجولةً في الكشفِ عن نفسها؛ ابتداءً بعنوانها ، و غلافها، وإهدائها ؛ والأخيرُ تحديدًا ( الإهداء) بدا ناضجًا مكثّفاً ومنحوتًا.
توقَّفتُ فيه عندَ جملة:” أدلقُ ذاتي على الورق”
التي بدَت لي كما لو أنَّ الكاتبَ سيتَّخِذُ من كتابةِ هذه المجموعة وسيلةً لترجمةِ الذات بكلِّ لغاتِ الوضوح والتجلي والشفافية،
و قد عُدتُ للجملةِ نفسِها مرة أخرى بعد إكمالِ قراءةِ المجموعة؛ لأكتشفَ أنَّ الكاتِبَ دلق جُزءًا فقط من ذاته على الورق ، لا ذاتُه الكامِلة؛ فكلُّ قصةٍ هُنا حملَت شعورًا مكتومًا لم ينفجِر بعد ، لم يصرُخ بِدَوِيِّ صوتِهِ الكامل، و لم يُصرِّح بمعناه القاني على بياضِ الورق.
و رُبَّما يكونُ الكاتبُ تعمَّدَ هذا؛ لتتماشى أدواتُ كتابتِهِ مع إحساسِهِ المُحرَّم.
” لقد بردَت المواسيرُ الآن ؛ ولكنِّي مازلتُ أحمِلُ ميسمَ البُندقيةِ على كتفي، وأحمِلُ في صدري سؤالًا لا يبرد”
ففي ( ما تزالُ الحقيبةُ شقراء) و( زَهوٌ مغفور) و(هَوامش دمعة) و( غدرٌ بريء) و( الحُب والسِّلاح) و( أحضانٌ مؤجَّلة) و( غَيظُ أنثى)
يُلاحَظُ أنَّ الكاتبَ اعتمدَ أسلوبًا وصفيًا سرديًا بديعًا ؛ اتَّسمَ بالانتظامِ، والتَّسلسلِ الوصفي، والهدوءِ الناجمِ عن اتَّزانِ انفعالاتِ بيولوجيةٍ مُختزلة لحظةَ الكتابة ؛ فجاءت هذه القصص أكثرَ تدفُّقًا ومرونةً من أخواتِها؛ واضحةَ الرُّؤى، قويَّةَ البُنية، و ماتعةَ التعبير.
“عادت السَّماءُ زرقاء عالية عريضة، كانت الأشجارُ المُخضرَّةُ تحفُّ بالنسيم العابر فوقها؛ فتتمايلُ رؤوسُ الأغصان في أُلفةٍ و سلام .
صفاءٌ أبديٌّ يُثبِتُ على النَّحويينَ خيانةَ اللغة؛ حينَ وضعوا الجماداتِ في خانةِ( غير العاقل) ”
كم أسرَتني الجملةُ الأخيرة !
فعلى بساطتِها إلا أنَّها قدَّمت فكرةً رقراقةً من لغةِ الطبيعة لدى الكاتب؛ لا أدري إن كان أحدٌ قد سبقَهُ بها .
فجاءَ التعبيرُ في القصص المذكورة عن( الحب الذي يطرقُ بابَ القلب في وقتٍ غير مناسب كما في( ماتزال الحقيبة شقراء)، و الحديث عن سُوءِ الظن والحُكم على الأشخاصِ من مظاهرِهم في( زهوٌ مغفور) ،و قضية الاستغلال كما في( هوامش دمعة) و الحُب من طرفٍ واحد كما في( غدرٌ بريء) ، و الحرب التي تسرقُ الأحبةَ كما في( الحُب والسلاح) و الحديثُ عن الغُربة من وُجهة نظرِ امرأة كما في( غيظ أنثى) و الغربة أيضا ؛ لكن من وجهة نظرِ الوطن كما في ( أحضان مؤجلة) جاءَ منُسابًا ،بسيطًا ،متدفقًا ؛ كأنما غُرِفَ غرفًا من مَعينِ الحياةِ العَذب .
أمَّا في( مُخاتلاتُ عجوز) و( وقَّاد العنبر) و( حَصاد القَحط) و( آدم لأُم) و( قِيامةٌ في الأرض) و( رواسب) و( ذاكرةُ ذُبابة) و( نوافذُ خالية)؛
فغلبَت فيها روحُ الكاتب ( المُفكِّر) على ( الشاعر) ؛ فجاءَت غائرةَ المغازي ، رماديةَ الأُفق، و صاخبةَ النَّغَم الفلسفي؛ و رغم جودةِ هذا النغم الفلسفي ، و كشفِهِ عن كاتبٍ ضليعٍ في سَبرِ كُنهِ الماورائيات ( النَّفسية ، الفِكرية ، الرُّوحية) إلا أنَّهُ أبطأَ نَفَس النَّغَم المُوسيقي، و زحزحَ قليلًا مقاماتِ السُّلَّم الغنائيّ العذب في القصصِ المذكورة سابقا.
” الحقيقةُ المُجرَّدة مؤلمةٌ حين ننظرُ فيها مباشرة، مؤلمةٌ جدًا يا حليمة؛ فلماذا لا نجعلُ بينَنا وبينَها غشاءً ورديًا ؟!
لن يرحلَ فَقرُنا الأسود بكِذبة، وستبقى الحقيقةُ كما هي، هذا قدَرٌ حتمي، ولكنَّ إحساسَنا بوخزِها الجارحِ سيخِف.
خيالُنا و كلماتُنا كالنظّارةِ الشمسية عندما نضعُها على أعينِنا ، فنشعرُ و كأنَّنا نسيرُ في ظلِّ غيمةٍ مُمتدة، لا تتوقَّفُ الشمسُ عن حرقِنا من الأعلى إكرامًا لتلك النَّظَّارة المُخادعة؛ ولكنَّنا نحتالُ على أنفسِنا بأننا ننعمُ بظلِّ غيمةٍ تتحرَّكُ من أجلنا ، إنَّنا نحتالُ على أنفسِنا ؛ لأنه لايوجدُ أمامَنا خيارٌ آخر غير أن نحتالَ على أنفسِنا، وبكلِّ الإخلاص الممكن”
فمثل هذه الأفكار الفلسفية وإن بدت غير معقدة ، إلا أن القارئ كي يقرأها يُنحِّي مشاعرَهُ قليلا، ويستحضر لبابة فِكره ليمتصَّ جوهرَها ، ولا بأسَ من ذلك أيضا.
أمَّا في ( إعدام ،نكهة حرب،أجساد تترمَّد،نوستالجيا،موسم السمسم،جوقة ليليث،وليمة على بوابة الموت،إحساسٌ محرَّم،حلٌ آخر،محاكمُ على الطريق،مراكبُ ترابيَّة،ميزانُ الأرض، رِفقة) فيشعرُ القارئُ كما لو أنَّها جميعا كُتبت بنَفَسٍ واحدٍ، ومغزى وحيدٍ مُتكرِّر؛ فكُتبت بأسلوبٍ متوسط بين العميق الفلسفي، و البسيط الواضح ؛ فناقشَت موضوعاتٍ اجتماعية متقاربة؛ كاستخدامِ السلاح في الاحتفالِ بالأعراس في ( إعدام) و الحرب التي لا تقبل الحِياد حين تضرب الحربُ البطونَ بالجوع كما في( نكهة حرب) ،
والعمر الذي يترمَّد وقطارُه الذي يمضي في( أجساد تترمَّد)،
و الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينهِ للعودة لمنزلهِ القديم أو للماضي – عمومًا ـ كمافي( نوستالجيا) و( نوستالجيا) كلمةٌ يونانية و معناها: ( نوست) الرجوع للبيت، و( الجيا) تعني: الألم أو الحنين للأهل والماضي والأحبة.
وناقشَت موضوع ( التداوي الخطأ للحمل بطريقةٍ بدائية) كما في العُرف الريفي ؛ في( موسم السمسم) و يقاربه أيضًا ( الفشل الطبي) حتى بين صفوفِ الدارسين المُتخصصين كما في( حلٌ آخر)؛ حلٌ يظلُّ الطبيبُ المختصُّ يُوهمُ به مَرضاه ؛ حتى بعد أن يغادروا الحياة، غيرَ واعٍ لفشلِه ، ولا للذي ترتَّبَ على ذلك الفشل من انقضاءِ حياةٍ؛ بسببِ أطباء يرونَ في مرضاهم فئرانًا لتجاربَ جديدةٍ ، لا بأسَ أو تخطئَ يوما أو تُصيب!
و ناقشَت المجموعة أيضا موضوع الزَّجِ بالأبناء في براثنِ الحرب ؛ ليشتدَّ عُودُهم كما يظنُّ بعضُ الآباء، كما في ( جوقة ليليث) و ( ليليث) كما يُقال: إنَّها زوجة آدم عليه السلام الأولى ، وهذا بحسبِ باحثينَ سوريين ، وقيلَ إنَّها شيطانةُ الموت، وقاتلةُ الأطفال.
لكنَّ الصوابَ أنَّ القولَ بهذا قولٌ باطل ،لا سندَ له إلا شيءٌ من خرافاتِ أهلِ الكتاب، ولا توجدُ حتى في كتبِهم المُحرَّفة ؛ بل أخذُوها من بعضِ أهلِ الأوثان الذين جاوروهم كأهلِ ( بابل) .
كما تطرَّق الكاتبُ لموضوعِ الحرب التي حكاها بصفةٍ شخصية و حقيقية في( وليمة على بوابة الموت) التي استطاعَ فيها الكاتبُ أن يرسمَ التفاصيلَ؛ حتى تلكَ التي لا يُؤبه لها ، و كأنَّه أعادَ وجودَها المكتنزَ من ذاكرتِه مباشرةً بكلِّ مواقفها ،و روائحِها ،و شعورِها ، و اهتزازِ خيباتِها.
و موضوع الحرب يتكرر أيضا في( نكهة حرب) مع( حامس) الرجل الحيادي إزاء الحربِ وطوائفها وشُخوصِها؛ لكنَّ الجوعَ الذي يقرصُ بطون أحبَّته يُجبره أن يقرصَ هو أيضا قلبَهُ وأفكارَه ومعتقداتِه ؛ فيحملُ بندقيَّته، ويلتحق بدربٍ بخطٍّ وحيدٍ لا رجعةَ منه.
” فالخياراتُ ترفٌ لا يملكُه الفقراء”
” نكهةُ الحرب لا تجلبُ خيال دمائِها و بارودها ، وأصوات أنين الجرحى ، ورائحة الجثث المُحترقة فقط؛ الحربُ تتكاثرُ في الداخل، في النفوسِ المحروثةِ بالوطنِ ،والشعارات، والمجهول” .
كما نوقشَ موضوع (الاغتصاب والفشل في تقديرِ الذات واحترامِها) كما في( إحساس محرَّم) ، و بالرغم من أنَّه موضوع اجتماعيٌ خطير ، إلَّا أنَّ المكانية التي حدَّدها الكاتب بالحَرَمِ الجامعي لم تكن ملائمةً نوعًا ما؛ فمثلُ هذه الجرائم لا أجدُ من ضرورةٍ لربطها بمكانية ؛ سواءً كان المكانُ خاصًا بالتعليم أم غير ذلك؛ فمثلُ هذا الرَّبط من شأنِه أن يُرسِّخَ فكرةً غير لائقة لدى القارئ عن أماكن من المفترضِ أنَّها للتعلُّم فقط.
و ناقشَ الكاتبُ قضية الخطأ حينَ يجلبُ خطأً أكبر ،وجريرةً أنكى، في ( محاكم على الطريق) ،
و قضيةُ المال الذي تأتي التعاسة من بابه؛ في حين انتظرنا دخولَ السعادة من ذاتِ الباب؛ كما في( مراكب ترابية) .
و قصة (صالح ) الفتى البسيط الذي لم يكن إلا حجرًا؛ ليستقيمَ ميزانُ العدلِ على الأرض؛ فقد يدفعُ الطيِّبون – أيضا ـ أثمانَ طيبتهم إن حاولوا التماشي مع الباطلِ، أو السكوت عنه والهروبَ منه ؛ فقط لأنَّ يدَ العدلِ طائلة؛ قد تبدأ بالمهزومِ الوديع ؛ قبلَ الظالمِ الباطِش.
كما عرَّج الكاتب على قضية( الغناء ) بشكلٍ مُقتضب في( رِفقة) رفقة كانت بينَ ثلاث آلاتٍ موسيقية هي( البيانو ،التشيلو، الأكوردينو) فجسَّدَها كثلاثةِ رفاق؛ ينتظرونَ يدًا تمُنُّ عليهم بأن تُطلِقَ أفواهَهم بالنَّغم، حتى إذا ما اقتربَت تلك اليدُ المُنجية ، جاءها صوتُها الداخلي يحثُّها ألَّا تفعل، فتمضي تاركةً الأصدقاء الثلاثة في خيبةٍ .
من الممكنِ القول: إنَّ جميعَ قصصِ المجموعةِ جاءت متداخلةً، حاملةً مضامينَ متقاربة ،منقسمةً بين :
مضامين ( سياسية) كالحرب ومخلفاتها كالغربة و الفقر و حمل السلاح و القتل ووووو
و مضامين ( اجتماعية) كالحب، و سوء الظن، و الاستغلال، و الحنين، والفساد الأخلاقي، و الخوف من الاختلاف، و الفشل الطبي وووو ….
و يجدرُ أن أذكرَ هنا أنِّي ظللتُ أبحثُ في كلِّ قصةٍ عن إحساس محرَّم؛ جعلَ الكاتبَ يربطُها جميعًا بهذا الإحساس؛ إلا أنِّي استطعتُ الشعورَ بحُرمانيته في بعضِ القصص ، وتاه منِّي في بعضِها الآخر !
لا أدري إن كانت التسميةُ جزئيةً لبعضِ القصص دونًا عن غيرها، أم أنها كلية لكل قصص المجموعة؟!
ولا أدري إن كنتُ أخطأتُ في سَبرِ ذلكَ الشعورِ المُحرَّم ؟! أم أنه لم يكُن محرَّمًا أصلًا ؟!
لكنَّ الخيطَ الرابطَ لها جميعا – كما ارتأيت- لم تكن التسمية؛ بل الرغبةُ في إطلاقِ سراحِ شعورٍ مُحرَّمٍ مكتومٍ و موؤود؛ بالبوح والميلاد .
” أحتاجُ ذاكرةً جديدة، أو حتَّى رأسًا آخر، لا يهمُّ كم سأنفقُ من الوقت ؛ لأقنعَ أطرافي بالتعاملِ مع الرأسِ الغريب؛ المهمُّ ألَّا أضعفَ و أنا أجرفُ بقايا الأيامِ المتراكمة بداخلي”
يقول الكاتبُ في إحدى خواطرِهِ و شذراته التي تخلَّلَت المجموعة.
كانت تلك الخواطرُ أو المياسم؛ مقطوعاتٍ بينَ( الفلسفية الفكرية) و(الأدبية الجمالية)، لكنَّها جميعًا حملَت معانٍ مصقولة و مشاعرَ أنيقة، ولعلَّها كانت في ذلك تابعةً لخطِّ سيرِ الكاتب في كتابةِ قصصه ، أو ناتجةً عنها .
فقِصَّتانِ هنا ، تقابلهما خاطرتانِ هناك ، بدلالاتٍ متَّسقة، منتظمَة، ومتكاملة؛ يشدُّ بعضُها بعضًا.
وبينَ كلِّ هذا (الزَّخَم الإبداعي المُتَّسِق) لا يمكنني أن أغفلَ عن ذكرِ ( الحب والسلاح) القصة الأيقونة ؛ التي شعرتُ أنَّها كُتبَت بقلبٍ لا قلم.
الحوارُ المصفوفُ بين سامية وسامي ،
التفاصيل،
الذكرى،
الحنين،
و الحرب حين تقتلعُ كلَّ ذلك.
” المهم عندي أن ترجع”
“أليس مهما على أي حالٍ أرجع؟”
” أبدا؛ لأني أريدُ سامي فقط، ولا يهمُّني بعدَ ذلك مَن يكون، ارجع كما أنت فذلك يكفيني”
” سأعود لكِ ، ذلك أمرٌ محتوم؛ سأعودُ للفجر ،وحقل الذرة،للعصافير التي ترتصُّ على الأغصان العالية.
هل تذكرينَ العصافير؟
كنتِ تحبِّين تلك التي تغرِّدُ وحيدة، وأنا أحبُّ التي تأتي في أسراب، وأحيانًا نتشاجرُ على بعضِ الأنواع أيُّها الأجملُ صوتًا، والأسرع، والأجملُ ريشا”
” نعم أتذكَّر، و فوقَ هذا نذهبُ نتابعُها ، فتتبعثرُ أغنامُنا في الحقل، وتُفسد شتلات عمّي حيدرة ؛ فيعاقبنا”
استطاعَ الكاتبُ في القصصِ التي غلبَت فيها العاطفةُ الفِكرَ أن يُلوِّنَ الشخصياتِ بلونِها الإنساني الأبيض، البسيط، البعيد عن عُقد التوصيفِ، والتوظيفِ الفكري للقضايا ؛ تلوينًا يجعلُ القارئ يقولُ:” إنَّ القصةَ هنا تحوَّلت لمقطوعةٍ شعريةٍ عذبة .
في حين أنَّ القارئ أيضًا يقولُ في قِسمٍ آخر من هذه المجموعة:” إنَّ القصةَ هنا رتلٌ فلسفيٌ مُعقَّدٌ ناتجٌ عن قراءاتٍ فكريةٍ تفصيليةٍ غير شُمولية.
ولا يستطيعُ القارئُ في كلا الحالَين إلَّا أن يقول : إنَّهُ أمامَ مجموعةٍ قصصيةٍ ( برمائية) إن صحَّت تسميَتي الخاصّةُ لها ، جامعةً بينَ عُمق البحارِ و ضراوةِ مَوجِها، و بينَ بساطةِ اليابسةِ و جَمالِ ربيعاتِها .
وقد صدقَ ( الرَّافعي) في رسائل الأحزان حين قال:” ليسَ الجَمالُ ما يعلمُ الكاتب، أو يدرسهُ الفيلسوف ، ولا هو مذهبٌ من مذاهبِ التلفيقِ في الجُمل والألفاظ ، و لا هو كما صنعَ علماءُ الرياضيات؛ الذين جعلوا الفلك كله ؛ بألوانهِ وجمالِه، وما فيه من غموضٍ ، والأرض بما انبسطَ عليها من جمالِ الطبيعة؛ مسألةً هندسية .
ولو أنِّي سُئلت تسميةً لعلم الجَمال لسمَّيتُه ( علم تجديد النَّفس) فإنَّ الجميلَ الذي يُجدِّدُ بمعانيهِ حواسَكَ، و عواطفَك، و يُعيدُها غضَّةً طريةً ؛ كما فُطِرَت من قبل.
لا تسَل عن الجَمال مَن يُحسنُ الفِكرَ والإبانة عن فكرِه، ولكن سَل عاشقًا يُحسن الشعورَ والتعبيرَ عن شعوره؛ وذلك هو ( تاريخُ الجَمال) الذي يتكرَّرُ على الأرض أبدًا، وإلى منقطعِ الحياةِ في صورةٍ واحدةٍ كالحياةِ نفسِها”
في الختامِ نشكرُ كاتبنا المتألق الذي استطاع أن يبادلَ بين أدوار الفكر والعاطفة؛ يفترقانِ حينًا، و يصالحهما معا في حينٍ آخر، لذا شكَّلت المجموعة أنموذجًا عبقريًا للكتابة المزدوجة بلغةِ النهرِ حينًا ، و لغةِ الجبالِ في أحايينَ أُخر .
نرجو لكاتبِنا البارعِ دوامَ التوفيقِ و الألق، و أن نقرأَ لهُ وعنهُ سماواتٍ جديدةً من الإبداع في المستقبلِ القريب إن شاء الله.