لذلك من الطبيعي أن توغل بنا عبارة (علام تقاتلنا؟) إلى قيم المستقبل والمحبة والحياة، استناداً إلى لياقة العاطفة الإنسانية المتطورة معرفياً وأخلاقياً، مع أننا لا زلنا نفتقدها كثيراً. السؤال الصرخة لبشامة بن قيس أحد أبرز فرسان المعارك الطاحنة لقبيلتي تغلب وبكر في حرب البسوس الجاهلية الشهيرة، من المرجح أنه يمثل بدايات تفتح العقل العربي السحيق، مع أننا لا زلنا حتى اليوم نتقاتل بالطبع، فيما يبدو مرجحاً أيضاً أن هذا السؤال الخالد المسؤول لا ينتابنا كما ينبغي، نظراً لتدفق الاهتياجات التي تخاصمه على أكثر من صعيد.
وفي هذا السياق تساءل البردوني: “أليست هذه أول بادرة مشرقة تكشف عورات الأوضاع بالتساؤل عن مبرراتها؟ فلقد كان الجاهلي يقتل ويُقتل دون أن يسأل لماذا ؟علامَ؟ المهم أن يغير عندما تدق طبول الحرب، لكن بشامة بن قيس أول من سأل: علامَ تقاتلنا؟ على حين كان غيره يقر هذا كالمسلمات”.
بالتأكيد إنه السؤال المتجاوز المشحون بالوعي الفردي النقي، كما أنه السؤال الرافض جداً، في حين كان يمثل تحدياً للأخلاق، بحيث مثل ردة فعل عقلانية فجائية في بيئة قبلية منقادة شديدة التوغل بلا حساب في إرث الثأرات والحقد والطقوس الانحلالية التي كان يمجدها الغالبية آنذاك حسب ما أكدته مرويات التاريخ.
بل لعله السؤال الذي يطرح أمام أعيننا مذاق الهباء، مع الأخذ بالاعتبار الزمن الرهيب الذي استغرقته حرب البسوس في الانتقامات والانتقامات المضادة وتعطيل الأمل بالتعايش والتسامح والسلام.
هذا السؤال الغريب المستوحش في محيط شعور جمعي لا يفكر، كما لا يعترف بأخطائه، بقدر ما يتباهى بلعنة الدمار والموت ما دامها رغبة القبيلة لإثبات تحديها للآخر، إضافة إلى عدم استسلامها لما يوصمها بالعار حسب الوعي التقليدي العربي البدائي الذي لم نتخلص منه بعد: هو ذاته السؤال المنشق الذي يخالف في مضمونه نزعة التفاخر البغيضة في الانسياق الأشبه بروح القطيع وراء جنون الأحقاد القبلية الوراثية، معتزاً بإحساسه الخصوصي الصعب للغاية؛ ليس بصفته سؤالاً للمراجعة الحادة فقط، بل لأنه ينبع أساساً من لحظة طافحة بالخرابات والفقد والندم عصية على الاحتمالات والاستمرارية.
لذلك من الطبيعي أن توغل بنا عبارة (علام تقاتلنا؟) إلى قيم المستقبل والمحبة والحياة، استناداً إلى لياقة العاطفة الإنسانية المتطورة معرفياً وأخلاقياً، مع أننا لا زلنا نفتقدها كثيراً.
هذه اللياقة العبقرية اليوم رغم كل الجنون الرذيل الذي تراكم عربياً -وعلى وجه الخصوص يمنياً- في أكثر من سياقات بسوسية للأسف، بينما كان يفترض منها أن تحدث الفارق الواضح على سوء الضمير باتجاه التطلع للأفضل.
ويعلق البردوني بأن “همجية الجاهلية ووثنيتها كانت موضع القبول؛ لأنهما الواقع الذي لا مفر منه، فلم يستنكر أحد سوء الأوضاع التي كانت قائمة، ولا حاول تغييرها بل أصر كل أولئك السادة على ديمومة ذلك الوضع، بما فيه من عاهات اجتماعية ودموية؛ لأن في ذلك الوضع المتردي منافعهم الاقتصادية الطبقية، لكن أفراداً هم الذين أنكروا ذلك الوضع الشائن، وكشفوا عوراته تحت أضواء التأمل والتقصي، و”ذات يوم حين عاد بشامة بن قيس من حرب البسوس إلى أهله، وكان من المنتظر أن يفعل كغيره من رجال ذلك الحين، فيفخر بمضاء سيفه ويعدد ضحاياه من الأبطال، خالف ما كان ينتظر منه”.