عاد الأئمة على أكتاف الخونة يقتطعون من جسد الجمهورية قطعة تلو أخرى، واستحالوا لسرطان يتفشى خارج صعدة. *إهداء: لكل جندي مجهول بذل روحه من أجل الوطن.
_متى ولدت يا أمي؟
_ يوم قرحت الثورة يا عبدالله, خلقت أنت والجمهورية في نفس اليوم.
_ لماذا قرحت يا أمي؟ ومن هي الجمهورية؟
_ لأن الناس تعبوا من الظلم والعبودية, والجمهورية هي الحرية و الكرامة, هي مستقبلك ومستقبل أولادك.
_ وكيف قرحت يا أمي؟
_ انفجرت في قلوب الناس حباً وعشقاً لليمن, انفجرت ثورة الأحرار ضد الطغيان وأعلنوها حرية من السادة الأئمة.
كانت تساؤلاتي لأمي وأنا في العاشرة, ما أزال صغيرا يحمل المحراث خلف الثور ويرمي الحب في الأرض التي صارت جمهورية بعد أن انتزعها عائلتي من عسكر الإمام.
لم يطّل مكوثنا في القرية فقد تركت عائلتنا الصغيرة جدي وأعمامي لنستقر في المدينة.
قال لي أبي: يجب أن تلتحق بمدارس الجمهورية كي تحميها فلا تعود أزمنة الجهل والمرض, أبي الذي ذاق القهر في سجن الإمامة من أجل قطعة الأرض وأكل الجوع وعاشر المرض، كان يقص علي وأخوتي كيف أن الجمهورية صنعت مستقبلنا الأفضل.
يلقننا أشعار الزبيري وسيرة الأحرار كشيء مقدس, يقص علينا حكايات يوم لم تشرق شمس على أفضل منه في عمر اليمن.
أبي كان ذاكرة شعب وقلب تألم, فكان امتنانه ليوم السادس من سبتمبر يوم مولدي ومولد المستقبل.
لم أتمكن من اكمال دراستي، فبعد خمس سنوات من التحاقي بالمدرسة مات أبي فقد كان أكثر أخوته ضعفاً ومرضا, بعد وفاته طلب منا عمومتي العودة للقرية, لكنني صرت رجلا كفاية كي أحمل أعباء أخوتي وأترك الدراسة وأطلب الرزق من أجلهم.
كنت أريدهم أن يتعلموا ويصبحوا كما تمنى أبي من رجال الجمهورية التي تغنى بها طوال عمري برفقته.
أبي غرس في قلبي الولاء لجمهوريتي، فلم أجد عملاً يليق بس سوى العسكرية.
كل سنوات عمري التي كانت تكبر وتتراكم صرفتها من أجل وطني الصغير “عائلتي” ثم وطني الكبير “الجمهورية اليمنية” في كل عمل كنت أفعله كنت أيمم به شطر وطني.
لم أكن مسؤول دولة كبير، بل ذلك الجندي المجهول، لكنني كنت أحمل المسؤولية نحو كل ما تحتويه أرض اليمن.
كنت أشعر بمسؤوليتي نحو أشجاره وهوائه وسمائه وسلامه وراحة أناسه مهما تسببوا في أذيتي يوما من الأيام ما داموا يحبون بلدهم وجمهوريتهم.
كنت أريد أن أزيح عن خواطر الناس تلك النظرة لكائن العسكري الذي ورث تراث عكفة الأثمة من النكاية بأبناء الوطن فعسكري الجمهورية ليس كعسكري الإمام أبدا..
كنت جنديا شريفا.. يعشق الجمهورية.
قاتلت سنوات طويلة من عمري في صعدة معقل الإمامة وحاضنة الشر الذي يتربص بالجمهورية وفي إحدى المعارك الملتهبة بالرصاص والدم الساخن في محيط مركز مديرية غمر في منطقة قلّة البياد أصبت هناك بشظايا انفجار مزق جهة كاملة من جسدي ومنحني إعاقة حرمتني المواصلة.
لم أيأس؛ بل قررت أن أخدم وطني في أي عمل أقدر عليه في مرافق الدولة.
أحب وطني ذلك الحب الذي إذا تشربت به الروح لا يزول أو يفتر مهما تنكر لك الوضع أو تجاهل حقك من يسمى المسؤول.
لكنني كعاشق لهذا الوطن كنت أعلم أن فيه الكثير من الألم.
كعسكري في مرافق الدولة كنت أرى الفساد ينخر في الجسد الذي يضمنا, إنهم أولئك الذين نبتوا على أكتاف الأحرار وصار الأمر لهم, يتحكمون في رقاب الناس وأقواتهم ويشوهون معنى الجمهورية التي لم يؤمنوا بها.
الجمهورية ليست عرضاً عسكرياً لجيش يقمع شعوب الجمهورية وليست أعلاماً فقط.
الجمهورية هي الحرية والكرامة كما قالت أمي التي عاشت عهود الظلام الإمامية.
الجمهورية ليست عائلية أو محسوبية, إنها الحق لكل فرد في الوطن.
ثورة السادس والعشرين من سبتمبر استيقظت في 11 فبراير تهز عروش من حادوا عن الدرب لتخبرهم أنها جمهورية وليست عائلية.
لذا قمت بواجبي كما اراد أبي, أدافع عن الجمهورية في ساحات النضال السلمي فلن أدافع عن عائلة سرقت خيرات الوطن والجمهورية, كنت في الخمسين شيخاً قد هدني طول الخدمة كعسكري في كل عمل كنت أقدر عليه, لكنني لم اترك للشباب فضل الدفاع عن أقدس أهداف جمهوريتي.. الحرية!.
وحين أصبت في جمعة الكرامة إصابة بليغة، لم أعد خائباً ألعق جراحي, بقيت حتى عاد كل فرد لأهله سالماً ومن ارتقى شهيداً ففي سبيل الحرية والجمهورية.
دفعت أبنائي ليكونوا جميعاً رجال للجمهورية, وحين ارتقى ولدي الأكبر في جريمة السبعين الذي تناثرت فيه أشلاء عشرات من أبناء اليمن لملمت جراح روحي في سبيل الجمهورية.
لكن الأيام والسنوات كانت حبلى بالغدر، فقد عاد الأئمة على أكتاف الخونة يقتطعون من جسد الجمهورية قطعة تلو أخرى، واستحالوا لسرطان يتفشى خارج صعدة ويزحف نحو العاصمة.
عادوا بحقدهم وعنصريتهم كسادة ونحن العبيد, وأين أنتم يا أحرار الجمهورية؟
كأنهم يريدون طمس يوم مولدي, يريدون إلغاء وجودي أنا اليمني, ولدت مع الجمهورية وسيبقى كل يمني مع الجمهورية لن يقتلوها أو يدفنوها وأنا وكل وطني الكبير نحيا بها ومن أجلها.
حملت يومها سلاحي وعرجي وجراحي وأحزان أبي لو علم بمحنة الجمهورية وعدت للقتال في جبهات النضال..
أموت أنا وتحيا الجمهورية.