في تعريف الإسلام:
سأحاول تسليط الضوء في تعريف الإسلام على الزاوية المتعلقة بما أكتبه هنا من محاولة لوضع الأرضية المناسبة للعيش المشترك والحياة المدنية المستقرة الهادئة بين مختلف التيارات والمذاهب إسلامية كانت أم علمانية. في تعريف الإسلام:
سأحاول تسليط الضوء في تعريف الإسلام على الزاوية المتعلقة بما أكتبه هنا من محاولة لوضع الأرضية المناسبة للعيش المشترك والحياة المدنية المستقرة الهادئة بين مختلف التيارات والمذاهب إسلامية كانت أم علمانية.
الإسلام في تعريفه العام هو مجموعة التعاليم التي أوصى الله بها إلى أنبيائه وكلفهم بتبليغها للناس، وقد ختمت تلك التعاليم بما أنزل الله على محمد عليه السلام، أما الزاوية التي تتعلق بموضوعنا في تعريف الإسلام فإن تلك التعاليم تنقسم -بحسب استقراء الأصوليين- إلى قسمين: قسم يتعلق بحقوق الله المحضة، وقسم يتعلق بحقوق العباد، والقسم الأول خاص بين العبد وربه، والتقصير والعصيان فيه يسمى ذنبا، ويدخل فيه أفعال الشعائر التعبدية وقضايا الإيمان وكل الأفعال التي لا تمثل اعتداء على الآخرين، أما القسم الثاني فهي التعاليم التي تنظم علاقتنا مع العباد، والتقصير والعصيان فيها يعتبر سيئة، لما فيه من إساءة للعباد، ويدخل فيها تلك التعاليم التي تنهى عن الاعتداء على الناس وأموالهم وأعراضهم، وكل التعاليم التي تحفظ حقوقهم وحرياتهم، وكما أن العصيان في هذه التعاليم يعتبر سيئة لما فيه من إساءة للآخرين فإنه في نفس الوقت يعتبر ذنبا لأنه عصيان لما أمر الله به من حفظ لتلك الحقوق، فكل سيئة تشمل ذنبا وليس العكس، لأن حقوق العباد فيها حق لله، وليس في حقوق الله المحضة حقا للعباد.
جاء ذلك التفريق بين الذنب والسيئة من خلال تأمل واستقراء الآيات القرآنية التي تجعل بينهما ذلك الفارق، فتجعل المطلوب في كل منهما فعلا مختلفا، فالمطلوب في الذنب هو الغفران، أما المطلوب في السيئة فهو التكفير، والذنب يكون في الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه، أما السيئة: فهي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله، (بين العبد والعبد). ففي الذنوب يكفي الإنسان صدق التوبة ليغفرها الله له حتى وإن وصل حد الإسراف فيها، والآية تقول: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم “53” (سورة الزمر)، أما السيئات فتكفيرها يتطلب من العبد بجوار التوبة أن يقتص المسلم من نفسه أو يعيد الحقوق لأهلها أو يطلب منهم العفو والمسامحة، ولذا فالتوبة فيها أصعب لأنها مقرونة بالعدل ” وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا” أو العفو من الآخرين “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”، أما الذنوب فعلاقتها مع الله وحده والله يعفو عمن جاءه تائبا صادقا.
ولما كانت أساس علاقتنا مع الله هي العفو والمغفرة لم نحتج فيها إلى قاض يحكم فيها، فالحكم لله وحده يفصل بين الناس يوم القيامة، أما لما كانت علاقة العباد مع بعضهم قائمة على أساس العدل فقد احتاجوا فيها إلى قاض يحكم بينهم ويفض نزاعاتهم، وقد كان النبي في أحد مقاماته قاضيا، ثم جاء الخلفاء من بعده وعينوا قاضيا للفصل في تلك القضايا، ولم يكن في زمن الخلفاء منصب المفتي، لأن تعاليم الدين مطلوب فيها أن يجتهد كل فرد فيها قدر استطاعته، وهذا ما كان عليه جيل الصحابة ومن بعدهم من التابعين، ثم جاء تنصيب المفتي متأخرا! وربما كان للسلطة السياسية هدف سياسي من وراء ذلك أكثر من كونه هدف ديني، كي يرسخوا سلطتهم في الحكم عبر إلزام الناس بمذهب معين يختارونه.
لقد دافع الفقيه ابن حزم بقوة عن حق الاجتهاد لكل مسلم في أمور دينه، ورد على الفقهاء الذين حصروا الإلزام في الاجتهاد في مسائل الاعتقاد فقط وقالوا بالتقليد في مسائل الأحكام، ورأي ابن حزم بنظري هو ما تؤيده فلسفة الدين ذاتها، فإذا قلنا به فإننا لسنا بحاجة إلى أن تنصب الدولة مفتيا، وخاصة إذا كانت الدولة ستمنحه سلطة ما على الناس وتلزمهم برأيه أو مذهبه، أو تجعل فتاواه في تناقض مع أحكام القاضي في الأمور التي يستفتى فيها وهي مما تخص القضاء.
إن فلسفة الإسلام في العقوبات الدنيوية جاءت في ما يخص حقوق العباد فقط، أي فيما كان من السيئات، أما ما كان من الذنوب فلا عقوبة دنيوية فيه، فإذا كان القتل هو رأس السيئات وأكبرها فإن الكفر والشرك هو رأس الذنوب وأكبرها، وفلسفة الإسلام تجعل للأول عقوبة دنيوية وترجئ أمر الثاني إلى الله ليفصل فيه يوم القيامة، وليس من اختصاص القضاء الحكم على فلان من الناس بالإيمان أو الكفر، ومن باب أولى ليس من اختصاص أفراد الناس، وإنما تعود مسألة الحكم على أحدهم بالإيمان أو الكفر إلى الله وحده، لأنها علاقة خاصة بين العبد وربه أولا، وثانيا لأن الله وحده هو من يعلم الظاهر والباطن لكل إنسان.
لكن مجتمعاتنا لم تسلم من ظاهرة التكفير تلك ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي برزت إلى السطح تلك الظاهرة بقوة مما جعل أحد زعماء الحركات الإسلامية حينها وهو المستشار حسن الهضيبي لأن يصدر كتابا عنوانه “دعاة لا قضاة”، لينبه أولئك إلى طبيعة دور المؤمن، فالمؤمنون دعاة يدعون لما يؤمنون به، وليسوا قضاة يحكمون على الناس في كل صغيرة وكبيرة، لكن ظاهرة التكفير لما تواجه بالشكل الكافي وإنما استمرت تنهش في مجتمعاتنا الإسلامية، وظلت حملات التحريض على المخالف تحت ذريعة الدفاع عن الدين والأخلاق تأخذ كل فترة شكلا وكأن لدى أولئك وكالة من الله فيما يقومون به، ونسوا أو تناسوا عشرات الآيات التي تجعل من الكفر والإيمان علاقة خاصة بين العبد وربه، واستمرار هذه الظاهرة كان أحد أهم الأسباب التي جعلت فريقا من الإسلاميين أنفسهم ينادي بالعلمانية في بعدها السياسي كحل لتلك الإشكالية.