هناك عته مناطقي وتطرف شمولي، يخربان ما تراكم من بُعد قيمي ووطني للقضية الجنوبية. هناك عته مناطقي وتطرف شمولي، يخربان ما تراكم من بُعد قيمي ووطني للقضية الجنوبية.
لكن حسنا.. حراك الإمارات وسلفييها سيشكلون كياناً سياسياً من عدن وفق مباركة سعودية على مايبدو، ضد الصوفية والإخوان من ناحية، كما ضد فصائل الحراك المدعومة إيرانياً من ناحية ثانية، مع الأخذ بالإعتبار أن هناك فصائل سلفية قوية في الجنوب لن تنضم لهذا الكيان.
لكن تبقى المشكلة الأكبر لكل هؤلاء متمثلة في الكيانات الإرهابية المتطرفة كالقاعدة وداعش، إضافة إلى الكيانات السياسية والمدنية الكبرى الوحدوية التي مع حل القضية الجنوبية، ولا يمكن القفز على قوتها، في حال اتحدت مثلا، وتجاوزت خلافاتها السياسية التاريخية، خصوصاً مع بروز مثل هذه المخاطر الوجودية.
والسؤال المطروح الآن هل هذا الكيان السياسي سيتم تشكيله ضمن اطار الجمهورية اليمنية كحق شرعي ومقبول دستوياً وقانونياً ولائحياً أم ماذا بالضبط؟
على أن هذا الكيان الذي كشف عنه عيدروس الزبيدي لا يعني احتكاره الحديث باسم الجنوب، كما لا يعني أيضاً عدم قيام كيانات أخرى أو حتى حثه على رفض الكيانات السياسية القائمة، فضلاً عن إجبار الجنوبيين على مغادرتها بالترهيب والتخوين مثلا، لأن هذه اللغة سترتد على أصحابها من أي طرف كانوا، وستقوض وعيهم “السياسي والديمقراطي” المزعوم.. ما لم فليشكلوا لهم جماعة ميليشياوية كالحوثي وخلاص -وهم الآن كذلك- أفضل من المزايدة باسم السياسة، إلى أن تحين اللحظة المناسبة لوقف الحرب واحلال السلام، فيتحولوا حينها إلى كيان سياسي، ليبقى من حق هذا الكيان أن يضع أي مطالب سلمية حتى فك الإرتباط، لكن من المفروض عليه احترام التنوع والتعدد البرامجي السياسي والمطلبي القائم هناك، فلا يكون شموليا، ويتعالى على حق الناس في قول رأيهم ديمقراطياً وانتخابياً واستفتائياً إلخ.
وكما حذرنا سابقا، فإنه مثلما فشل منطق الوحدة المعمدة بالدم؛ حتماً سيفشل منطق الإنفصال المعمد بالدم خصوصاً في هذه المرحلة التي لا تقبل أي مغامرات وإنما تقبل استعادة الدولة التي يجب أن يسودها القانون ووحدها من تحتكر السلاح. ثم لكل حدث حديث.
ففي الحقيقة والواقع، هناك 5 تيارات في الجنوب اليوم:
تيار فك الإرتباط وفرض الإنفصال مهما كلف الأمر حتى بالقوة -تيار حق تقرير المصير عبر إستفتاء ديمقراطي كي يعبر الجميع هناك عن آرائهم كما ينبغي. – تيار وحدوي.. لكن مع الفيدرالية بإقليمين شمالاً وجنوباً وذلك للإبقاء على خارطة الجنوب كما كانت قبل 90م. -تيار وحدوي لكن مع الفيدرالية بستة أقاليم شمالا وجنوبا، فيما يبدو أن الحضارمة معه لأنه سيمكنهم في الجنوب من إقليم خاص في الشرق كما كان حالهم قبل 67م. – تيار وحدوي وهو الأقل لكنه مع حكم كامل الصلاحيات مالياً وادارياً وليس مع فكرة الأقاليم.
فضلا عن تيار إرهابي لا تهمه الوحدة، ولا يهمه الإنفصال بقدر ما يهمه إقامة دولة خلافة حتى لو كانت في مديرية، ومثله تيار فوضوي لا يهمه شيء سوى إستمرار حالة اللادولة التي يترعرع فيها.
وأما من يستمر مستقبلاً كجماعة مناطقية أو مذهبية فقط، سيكون صغيراً جداً ولا يحق له التحدث باسم وطن أو شعب بالطبع، وهذا الكلام ينطبق على الحوثي، وكل من يريد أن يكون مضاداً له، بنفس أدواته المذهبية لا بالأدوات السياسية.
فالثابت أن الكيان السياسي يمتلك قوته الاعتبارية من كونه عابراً للطائفية في مؤسسات الدولة وفي أطر المجتمع، بينما السخيف في الإعلان عن توجهات إنشاء هذا الكيان، ليس حكاية كيان سني جنوبي فقط، بل ماحملته جزئية “دولة سنية مدنية” التي جاءت على لسان الزبيدي.. مضيفا “نسيجنا الاجتماعي السني نحافظ عليه ونقاتل من أجله إلى جانب دول التحالف”.
وفي الحقيقة ليس مستساغاً أي كيان سياسي مناطقي ما بالكم بمذهبي الآن ومستقبلاً.
غير أن الإصرار على هذا الفرز البدائي، سيمثل انتكاسة لمشروع الزبيدي وبن بريك بلا شك.
والحال أن التعميق المتعمد للصراع الوطني على أساس مذهبي سني شيعي، أو مناطقي جنوبي شمالي، هو مجرد وهم كبير سيفضي إلى وهم أكبر، لان ذلك الوهم يقوم على محمولات لاوطنية ولاسياسية في الأصل، كما أن الإمعان في تطييف الصراع سيعيق تحقيق حلم المواطنة والدولة بالمقابل وسيجعل الكلمة الفصل للسلاح المنفلت.
إلا أن الواضح من خلال تحديد عيدروس الزبيدي للهوية الجنوبية كما يعرفها، هو إدراكه الواقعي بأن الجنوب قد صار مكتظا بالمشاريع السلفية على الأرض، في حين لا يوجد أي كيان جامع بصبغة سياسية للحراك المتشظي والمتعدد الرؤوس والزعامات والأمراض والعلل والموبقات.
وبالمحصلة يبدو أن هناك محاولات من الفاعلين الإقليميين، لاستنقاذ الجنوبيين الموالين، عبر دعمهم مباشرة، لتشكيل هذا الكيان كممثلين لحصة الجنوب في أي تسوية قادمة للصراع القائم، وهو ما يعني تغيير المعادلة الجنوبية.
والواضح أن تيار الزبيدي ومن معه يريدون أن يكون لهم صوت مشارك في المشاورات التي ترعاها الأمم المتحدة.
لكن هذا سيفضي أيضاً إلى صراعات جنوبية جنوبية، أكثر من كونها صراعات جنوبية شمالية، وأخشى أن يتم توظيفهم لضرب الجنوبيين ببعضهم، تماما كما أرادت إيران عبر جماعة الحوثي في الشمال.
ثم ماذا عن مصير السلاح الذي بيد بن بريك والزبيدي، هل سيكون تحت سيطرة الدولة مستقبلا كما يفترض أن يكون سلاح الحوثي والمقاومة أيضا.. أم أن كل من ملك سلاحاً منفلتا حق له أن يحدد المزاج الذي سيقيم به دولته الخاصة؟
ما الفرق بينكم والحوثي إذن؟!
والمؤكد أن اليمنيين لن يتذوقوا السلم الأهلي شمالاً وجنوباً دون دولة تحتكر السلاح أولاً.
وأما الذي ينبغي التشديد عليه الآن، هو الضابط للعبة السياسية القادمة بلا دوران ولا لف.
فإذا لم نستفد جميعاً من معطيات انهيار الدولة والانقضاض عليها وملشنة الجيش، فإن اليمن ستدخل دوامة حرب جديدة، وستتبدل الكثير من التحالفات والموازين شمالا وجنوبا. أو على الأقل ستدخل في دوامة سياسية أكثر قدرة على اجتراح معادلات جديدة للاعتدال وأكثر ملاءمة للاجتماع اليمني.
فالذين سيقبلون ببناء الميليشيات وحل الدولة، هم أقل بكثير، من الذين سيقبلون ببناء الدولة وحل الميليشيات. وأما المصلحة الشعبية ستبقى مع الإستقرار، وكذا مع المصلحة الوطنية لا المصلحة الطائفية؛ ثم إنه في زمن اللادولة، لابد أن تتحول الطائفية إلى نقطة ضعف، ولا يمكن أن تستمر كنقطة قوة دائما، كما يعتقد الأوغاد والأغبياء!