استقر النظام الأمني الأوروبي على قواعد عمل مشترك حكمتها مجموعة من المرجعيات، أهمها ميثاق باريس 1990، ومذكرة بودابيست 1994. باحتلال روسيا لجزيرة القرم دخل نظام الأمن الأوروبي في أزمة عميقة. أعادت أوروبا صياغتها منظومتها للأمن القومي تاركة الباب نصف مفتوح أمام الروس، إذ نصت وثيقتان مهمتان أصدرهما الاتحاد الأوروبي 2015/2016 على استعداده للعمل البناء مع روسيا إذا تقاطعت المصالح وسمحت الظروف. تصاعدت المواجهة بين الكيانين الكبيرين، الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي، وسادت حالة من عدم اليقين حول شكل المستقبل، على وجه الخصوص في الدول التي وضعت كل البيض في السلّة الروسية، مثل ألمانيا. عززت روسيا حالة اللايقين تلك من خلال التأثير على مجال المعلومات، الهجمات السيبرانية، ودعم اللاعبين المحليين المشاغبين. بين عامي 2014- 2022 قام كل طرف بإعادة هندسة استراتيجيته الأمنية، وانتهى الأمر بالحسابات الروسية إلى اجتياح أوكرانيا، الفعل الذي لم تضعه الدول الأوروبية ضمن احتمالاتها. انتقل الجاران من كيانين محكومين بقواعد أمنية متفق عليها إلى جبهتي حرب مستدامة. حتى تحافظ حرب الاستنزاف على زخمها تعيّن على روسيا أن ترتمي في الحضن الصيني، وعلى الأوروبيين أن يرتهنوا إلى الحماية الأميركية.
من حرب خاطفة إلى حرب مستدامة
في أكتوبر الماضي، 2023، عقدت الشبكة الأوروبية للقيادة ELN ورشة عمل استمرت يومين كاملين. طرحت الورشة سبعة سيناريوهات للطريقة التي سينتهي بها الصراع الأوكراني- الروسي: ثلاثة سيناريوهات في حال كسب أحد الطرفين المعركة على الأرض، وأربعة مآلات أخرى في حال بقيت المعركة عصية على الحسم. الآن مع تغير بيئة المعركة، بحسب عضو الشبكة كاتيا غولد، تبدو السيناريوهات الثلاثة التالية هي الأكثر معقولية: حرب مستدامة، التصعيد الزاحف، أو التصعيد العنيف. السيناريوهات الثلاثة كلها ذهبة في اتجاه واحد، وما من استراتيجية خروج في الأرجاء.
أخطأت حسابات الروس تجاه أوكرانيا، بحسب كلمات فيكتور أوربان، صديق بوتين الوفي، في لقائه مع صحيفة دي فيلت الألمانية. إلا أن الروس الذين وقعوا في فخ الحسابات السيئة ليسو أغبياء ولا مجانين، يقول أوربان. وإن لم تمض حربهم إلى الأمام، كما خططوا لها، فإنهم استطاعوا أن يخلقوا دولة فاشلة وظيفياً Dysfunctional state، دولة من الركام، بينهم وبين أوروبا كما يقدر البروفيسور ميرشهايمر.
لا توجد حتى الساعة استراتيجية أوروبية للخروج من المأزق. مخازن أوروبا من السلاح على وشك النفاد، يتطلب ملأها أن تستجيب المصانع الأميركية لقائمة المشتروات الأوروبية بسرعة كافية. حدث أمر مماثل إبّان الحرب العالمية الثانية، إذ صارت أميركا الغارقة في الكساد الكبير إلى مصنع للسلاح، ووجد ملايين العاطلين مخرجاً من الفقر.
تذهب التوقعات إلى أن وضعاً مستداماً من زعزعة الاستقرار سيسود ليس وحسب على الجبهة الشرقية مع احتمالاتها المفتوحة، بل في الداخل الأوروبي. العنف الذي جرى ضد المسلمين في بريطانيا، في الأسابيع الماضية، أعطى صورة مروّعة عمّا يعتمل داخل المجتمعات الأوروبية تحت السطح اللامع. وفي حين تترنّح الديموقراطية الليبرالية في الكتلة الشرقية فإن اليمين الأوروبي، والغربي عموماً، يكسب أرضاً كل يوم. في انتخابات 2020 حصل ترامب، الذي أفصح أكثر من مرّة عن تفضيله لنموذج حكم الفرد، على 74 مليون صوتاً.
يقظة على مفترق طرق
مع بداية هذا العام شهدت أوروبا ما أسماه جيوفاني غريفي، أستاذ العلاقات الخارجية الأوروبية في بروغز- بلجيكا، باليقظة الثانية. تحت ظلال المخاوف من عودة ترامب، مع تصعيد روسي مستمر على الجبهة الشرقية، فضلاً عن التحدي الاقتصادي والسياسي الذي تفرضه الصين، استيقظت أوروبا من سباتها. غير أنّها صحوة مليئة بالنشاز، بحسب غريفي، بسبب التناقضات الداخلية المعقدة بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا. تبدو أوروبا تائهة، على مفترق طرق. ما من قائد أوروبي تحدث عن الضياع الاستراتيجي الذي انزلقت إليه أوروبا كمثل إيمانويل ماكرون. في لقاءاته وخطاباته نادى أوروبا إلى مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية المحدقة، وإلى الوقوف في وجه التيارات الشعبوية التي تهدد البناء الأساسي، الأخلاقي والسياسي، للقارة. في خطابات ماكرون إشارة إلى “اليوم التالي”، وهو ذلك الزمن المفتوح الذي ستجد فيه أوروبا نفسها وحيدة، تكابد جبهة غير مستقرة على حدودها الشرقية، وتركن إلى حليف متقلب على الضفة الأخرى من الأطلسي. فضلاً عن الزحف الصيني الشره إلى استغلال كل الفراغات التي تعجز أوروبا عن ملئها.
في المواجهة التقنية بين الصين وأميركا تقف أوروبا متفرّجة، ليس في حوزتها ما يكفي من الإمكانات لخوض صراع تقني معقد على المسرح الدولي. يتذكر الألمان سنوات ترامب الأربع، الصعبة، حيث انهال بكل قسوة على أوروبا والنيتو، وعلى ألمانيا بشكل خاص. من بين حلفائه الأوروبيين اختار ترامب لصداقته القادة الأكثر إثارة للجدل، مثل فيكتور أوربان. وهم أولئك الذين تنظر إليهم أوروبا القديمة بحسبانهم خطراً على قيمها الليبرالية. فيض البروباغاند الروسي والصيني المناهض للديموقراطية الأوروبية، عبر مئات القنوات الفضائية ووسائط أخرى عصية على الحصر، جعل سردية الديموقراطية الليبرالية في وضع متأرجح. وعلى ضوء الحرب على غزة انكشفت الديموقراطية الليبرالية ليس أمام الصين وحسب، بل الجنوب العالمي برمّته. في عالم من السماوات المفتوحة، كما لم تكن الأرض من قبل، رأى العالم نفاق الغرب، ورأى أكثر من ذلك كم هي الديموقراطية الليبرالية عرضة للاختطاف.
الأطلسي الأخير
استيقظت أوروبا من سباتها مؤخراً لا لأنها لم تعد ترغب في النوم تحت المظلة الأميركية، بل لأن أميركا نفسها لم تعد قادرة، كما كانت، على أن تكون مظلة للبلدان البعيدة. حين قال أوباما، ضمن استراتجيته بناء أمة من الداخل، إن السعوديين يريدون أن يركبوا في العربة الأميركية بالمجان، فهو كان يشير إلى رؤيته الجوهرية لبلاده، وهي أنها لم تعد قادرة على أن تكون إمبراطورية وبات عليها أن تتدبر أمرها كقوة عظمى. يعيد ترامب، حين يتحدث عن الأوروبيين، ما قاله أوباما عن حلفاء بلاده في الشرق الأوسط: الراكبون بالمجان.
مؤخراً تنفست أوروبا الصعداء بعد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي. بقاؤه في المعركة جعل من عودة ترامب أمراً محتملاً. غير أن بايدن، من جهة أخرى، هو آخر رئيس أطلنطيAtlanticist بالنسبة لأوروبا، كما ترى الكاتبة جودي ديمبسي في مقالتها على منصةStrategic Europe . بقي بايدن، طيلة حياته، وفيّاً لمؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أنجزها العالم الغربي، مثل البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الأمم المتحدة، وكذلك النيتو. الأجيال الجديدة في أميركا، ترى ديمبسي، لا تمتلك هذه “الذاكرة المؤسسيّة”، أو ذلك الارتباط العميق بأوروبا كما هو الجيل الأميركي الذي يمثّل بايدن مثاله الأعلى. يضيف هذا إلى تعقيد المخاطر في القارة التي اعتادت أن تركب خلف أميركا بالمجّان. من جهة أخرى تعمل الصين، وحلفاؤها، على إعادة صياغة تلك المؤسسات أو تجاوزها. الحرب الإسرائيلية على غزّة منحت خصوم أوروبا الكبار، كالصين وروسيا، الفرصة للقول إن المؤسسات الدولية ليست سوى أدوات غربية للهيمنة على العالم. بلغ ذلك الانكشاف مداه مع التهديدات التي أطلقها المشرّعون الأميركيون ضد محكمة الجنايات الدولية، وعجز الأمم المتحدة عن إيقاف إبادة بشرية يجري نقلها على الهواء.
لطالما حذر القادة الأوروبيون أنفسهم من الوحش الروسي. كل قائد روسي ذو منزع استقلالي هو بالضرورة بطرس الأكبر )ت. (1725.. خلال ثلاثة قرون لم يتوقف الغربيون عن تحذير بلدانهم من بطرس الأكبر، كما يرى الأكاديمي النرويجي غلين ديزن. هناك دائماً وحش روسي، وهذا الوحش ضمان للاستقرار الداخلي في أوروبا. لم تعد أوروبا مركز العالم بل ورقة تتلاعب بها القوى العملاقة. بعد نصف قرن من التخلص من الصناعات الثقيلة Deindusterialisation وجدت أوروبا نفسها رهينة الآلة الصينية، ولم يعد بالإمكان إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عقود من الزمن. فلم تعُد القارة العجوز مكاناً جيداً لرأس المال الذي تستهويه العمالة الرخيصة، المواد الخام، والاستثناءات. أمنيّاً علقت أوروبا تحت المظلة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ويبدو شبح “بطرس الأكبر” مسألة حاسمة بالنسبة للاستراتيجية الأميركية، فهو الضمان لبقاء القارة رهينة المظلة الأميركية.
في خطاب السوربون، 2017، قال ماكرون إن أوروبا لم تعد تتمتع بالطموح، وما عادت قادرة على أن تمضي قدماً. لقد انهزمت الروح الأوروبية، قال ماكرون، أمام خصومها. عاد ماكرون بعد سبعة أعوام، 2024، إلى المكان نفسه ملقياً خطاباً مزلزلاً حول مستقبل أوروبا، الذي هو مستقبل فرنسا كما قال. إن رسالتي اليوم بسيطة، قال ماكرون. “ففي نهاية الحرب العالمية الأولى أشار بول فاليري إلى أننا نعلم الآن أن حضاراتنا فانية. ولابد أن ندرك بوضوح أن أوروبا اليوم فانية. فهي قد تموت. وقد تموت، وهذا يتوقف على خياراتنا. ولابد أن نتخذ هذه الخيارات الآن”، انتهى الاقتباس.
تتحرك الصفائح التكتونية من تحت أوروبا، وتجد القارة نفسها تواجه احتمال “أن تموت”، كما تخوف ماكرون في خطاب السوربون الأخير. العالم الصناعي، كما كانت هويته التاريخية، لم يعد هو مصنع العالم. بينما تعاني ديموقراطيته من ضغوط شديدة ليس وحسب بسبب انتعاش ظواهر اليمين الراديكالية، بل لأسباب أخرى. فلم تعد الديموقراطية الليبرالية تتمتع بسحرها القديم. كشفت الحرب على غزة، كما الحرب الأوكرانية- الروسية، أن حرية التعبير والحقوق المدينة عرضة للمصادرة في الدول الديموقراطية، وقد شهدت ألمانيا مذبحة واسعة في حقلي الأكاديميا والإعلام لأسباب متعلقة بحرية التعبير.
في التقرير الذي حمل عنوان “الحرية في العالم 2024” قدمت فريدام هاوس بيانات واسعة حول وضعية الديموقراطية في العالم، ومما قالته البيانات أن الديموقراطية شهدت تراجعاً في 52 دولة في العالم، ونمواً بسيطاً في 21 دولة. الرهان الغربي على عالم ديموقراطي، أي ذلك الذي تحتفظ فيه أوروبا- أميركا بمركزيتها، بات حلماً متلاشياً. إن تآكل الديموقراطية، كما تؤكدها بيانات فريادم هاوس، يعكس تآكلاً عميقاً في نظام القوة الناعمة للعالم الغربي، ذلك الإبهار الأخلاقي والإنساني الذي قدمه الغرب للجنوب العالمي. أمام ما يداني ربع مليون قتيل وجريح في غزة سقط ذلك الإبهار، وانهار معمار أخلاقي ساد العالم لسبعة عقود منذ الحرب الثانية، ومعه سقطت القيمة المعنوية لكل المؤسسات الغربية التي حكمت العالم لسبعة عقود، مدّعية عالميتها وحيادها.
أضرّت الحرب الأوكرانية – الروسية بأمن القارة الأوروبية من الشرق، وعلى الناحية الثانية من الأطلسي يهرع الجمهوريون لانتخاب إدارة لا تخفي نوايها في إعادة تعريف المصلحة الأميركية على حساب الأمن الأوروبي، متعدية بذلك على كل ما تواطأت عليه ضفتا الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية. فقد نشرت فايننشال تايمز تقريراً يقول إن المفوضية الأوروبية أعدت استراتيجية لمواجهة سياسات ترامب الرامية إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على السلع الأوروبية. تقتضي الاستراتيجية الأوروبية تصعيد المواجهة مع أميركا من خلال رسوم مقابلة قد تصل إلى 50% على قائمة من الواردات الأميركية في حال فشلت المساومات مع الإدارة الأميركية. وبينما ينظر الأوروبيون إلى زيلينسكي بوصفه بطلاً يحمي العالم الديموقراطي فإن ترامب لا يكف عن نعته بالرجل الذي يبيع كل شيء. أما نائبه المحتمل، فانس، فقال في خطاباته إن أميركا لا تجني شيئاً من دعمها لأوكرانيا.
أوروبا التي توشك أن تموت، كما تخوف ماكرون، تواجه مخاطر حقيقية جمّة لا يمكن احتواؤها من خلال الرسوم الجمركية ضد البضائع الصينية، ولا دعم أوكرانيا بالسلاح. فتحت سقف البرلمان الأوروبي يمكن رؤية الشعبويين الأوروبيين وهم يمثلون الكتلة الثانية من حيث الحجم، وهي تيارات غاضبة تتفق فيما بينها على ضرورة نصب الحواجز بين دول القارة، والخروج من عباءة بروكسل.
المخاطر التي تعجز القارة مجتمعة عن احتوائها ستكون أكثر فداحة على الدول الأوروبية المنفردة. فمنذ غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي وهي غارقة في فوضى داخلية، انتهت بزلزال سياسي لا يعرف أحد بعد نتائجه على المدى المتوسط والطويل. وفي ألمانيا تقول استطلاعات الرأي إن حزب البديل الراديكالي، بل الفاشي، سيحل أولاً في الانتخابات المحلية التي ستُجرى في الشرق الألماني مطلع سبتمبر القادم. الإجماع الذي أبدته أوروبا حيال الغزو الروسي لأوكرانيا أول الأمر لا يعكس إجماعاً داخلياً حول القضايا المركزية، وفي مقدمتها فكرة أوروبا. وإن كانت فرنسا قد أفلتت من قبضة اليمين الراديكالي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فربما لن تنجو كل الوقت. المتانة الداخلية للقارة ليست على ما يُرام، وعلى حدودها الشرقية والغربية رياح يصعب التنبؤ بحركتها. أما الصين، الكولونيالي الأحدث، فبات الأوروبيون يدركون أن أسواقهم ليست وحسب عاجزة عن مجابهته، بل قد ينجح في فرض “إجماع بكين Beiging Consensus”، أي قواعد النمو والسياسة والأخلاق الصينية، على العالم بأسره.
نقلاً عن موقع الجزيرة نت