طرحت في المقال السابق سؤالا عن خطب النبي عليه السلام للجمعة أين هي؟ ولماذا لم تدون رغم تدوين ما هو أقل منها؟ وفي هذا المقال سأحاول الإجابة عن ذلك السؤال. طرحت في المقال السابق سؤالا عن خطب النبي عليه السلام للجمعة أين هي؟ ولماذا لم تدون رغم تدوين ما هو أقل منها؟ وفي هذا المقال سأحاول الإجابة عن ذلك السؤال، لأخرج بعد ذلك إلى الإجابة عن السؤال الأهم -الذي طرحته بداية مقالي السابق- عن تأصيل خطبة الجمعة في أيٍ من مقامات النبي هي؟ وماذا سينبني اليوم على تحديد ذلك المقام؟
فكرت كثيرا عن إجابة لهذا السؤال فلم أجد إجابة أكثر تفسيرية ومنطقية من القول بأن النبي عليه السلام كان يخطب في الجمعة بسورة من القرآن أو بجزء من سورة طوال خطبه للجمعة كلها، فالقرآن هو رسالة الإسلام وفيه جوامع الكلم، وفي الجمعة يجتمع كل المؤمنين، فهو أولى بان تصل فيه الرسالة ويصل فيه البلاغ لهم جميعا، ولما كان القرآن يدوّن أولا بأول في الصحف وفي صدور بعض المؤمنين، فقد ترك المؤمنون نقلل تلك الخطب شفاها لمن بعدهم ومن ثم لم تدوّن في عصور التدوين، هذا الرأي الذي أجده هو الأقرب تفسيرا لذاك السؤال له أيضا ما يؤيده من الروايات التاريخية، ولأنها روايات آحاد -أي ظنية- اعتبرتها قرينة مؤيدا لا دليلا أساسيا.
روى مسلم في كتابه روايتين عن صحابيتين سمعتا النبي يخطب بسورة ق في المنبر يوم الجمعة، وتذكر الروايتان أنهما سمعتا ذلك “كل جمعة” وفي ذلك التعميم لكل جمعة مبالغة ربما بسبب تناقل الرواية بالمعنى، إذ ربما كررها مرتين أو ثلاثا فبالغت الرواية وقالت “كل جمعة”، ولا يخفى على عاقل المبالغة في ذلك.
الرواية الأولى: عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
الرواية الثانية: عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ وَمَا أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إِلاَّ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.
إذا رجحنا هذا الرأي (أن النبي كان يقرأ بآيات من القرآن فقط) فإن خطبة الجمعة ستكون في مقامه الأول وهو مقام الرسالة، أي أن النبي كان يبلغ الوحي في حالة الاجتماع الواجب للمسلمين أسبوعيا، وعلى هذا سيبنى أحد احتمالين يمكن الأخذ بهما استنادا لهذا المقام: الأول أن الخطبة كانت مرتبطة بالبلاغ وإيصاله للناس، ولما انتهى ذلك الأمر واكتمل انتهى الإلزام بها، لأن الوحي عند وفاة النبي صار مكتملا ومدونا ومبلغا لجميع المؤمنين، وعليه فإن الناس سيجتمعون فقط لصلاة الجمعة بلا خطبة. والاحتمال الثاني: أن الخطبة يمكن أن تكون تلاوة من القرآن يقرأها أحدهم اليوم ويسمعها الناس ثم يقومون لصلاتهم.
لم يقف في وجه هذه الرأي إلا سؤال واحد، وهو هل خطب الخلفاء من بعده خطبا للجمعة؟ وإن كانوا قد خطبوا ففي أي مقام اعتبروا خطابهم؟
المشهور أن الخلفاء خطبوا في الناس، والمشهور أيضا أنها كانت خطبة واحدة للخليفة وليست خطبا في كل المساجد، إلا إن كانت هناك خطبا للولاة في البلدان الأخرى، وفي كلا الحالين فالسؤال هو إلى ماذا استند الخلفاء في ذلك؟
ربما هنا يأتي المقام الثاني ليفسر ذلك، وهو مقام ولي الأمر، فهل رأوا أن ذلك التصرف من النبي داخل في مقام ولي الأمر وأنه كان يخطب في الناس بما يسوس أمرهم باعتباره ولي أمرهم فقاموا بتقليده من بعده؟ فخطبوا أيضا في شئون الأمر الذي يسوسون به الناس؟ ربما يكون ذلك لولا أن القرائن والروايات التاريخية لا تدعمه.
لذا سيظل الرأي الأول هو الأقوى من حيث اتساقه ومنطقيته ويمكن تفسير فعل الخلفاء بأنه اجتهاد منهم للاستفادة من اجتماع الناس في إيصال مالهم وما عليهم بشأن سياسية أمر المسلمين.
لكن ماذا لو قلنا بأن النبي عليه السلام قد خطب في الناس في مقام ولي الامر؟
ما سيبنى على ذلك الترجيح هو أن الخطبة اليوم ستكون لمن خلف النبي في ذاك المقام، فخطيب اليوم هو ولي أمر المسلمين يخطب للناس في الشئون السياسية العامة التي تهم البلاد.
وعليه فإن الخطبة في وقتنا المعاصر ستكون قابلة للاجتهاد فيها باعتبار التشريع في هذه المقام خاضع لولي الامر نفسه ويمكن أن يخطب ولي الأمر (رئيس الجمهورية) وتبث كلمته عبر شاشات التلفزيون والإذاعة التي تصل إلى كل بلد وكل مكان، يحدثهم عن شئونهم الدنيوية التي كلفوه بها، ماذا عمل؟ وأين وصل؟ وماذا يريد منهم أن يعملون؟ ..الخ، ويمكن أن تكون بأي وقت سواء صباحا أم مساء، ويمكن أيضا أن يختار لها أي يوم، إنها ببساطة كلمة أسبوعية كالكلمة الأسبوعية التي يلقيها الرئيس الأمريكي.
يأتي بعد هذين الرأيين آخر الآراء والاحتمالات وربما أضعفها وأقلها سندا، وهو أن النبي كان يخطب في مقامه الثالث وهو مقام الإنسان المسلم الذي يمارس ما يمارسه كل مسلم، فعليه النصح والموعظة للمؤمنين، ولكن هذا القول ليس بقوة القول الأول ولا يصل لمستوى القول الثاني، ولا يوجد له مستند قوي يدعمه، واستدلالهم بما يسمى “خطب النبي” التي جمعها البعض من روايات متفرقة على الكتب المنصفة صحيحة وضعيفة لا تعتبر مؤيدة لذلك، لأن تلك الخطب لا يوجد ما يدل على أنها كانت “خطب جمعة” حضر فيها كل المؤمنين، فقد تكون من الخطب التي يخطبها النبي لبعضة من المؤمنين في غير الجمعة، سواء خطبهم بها في المسجد أو خارجه، وهي ليست بقوة وأهمية خطبة الجمعة، لأن الاجتماع في الجمعة ملزم لكل فرد، مع ترك كل عمل كان يمارسه “وذروا البيع”.
فإذا كان المعاصرون ومن قبلهم قد تناقلوا الخطبة تحت هذا المقام فإن الأدلة والشواهد لا تسعفهم، وليس في المسألة عبقرية اكتشاف، وإنما هو بحث عن منعطفات الانحراف التي حصلت في التاريخ، انحراف لم يكن في أصل القضية وإنما في بعض زواياها، وكم من القضايا انحرفت في فكرنا الديني بفعل ترسيخ الأمراء والسلاطين لثقافة ما في زمن حكمهم ثم جاء خلفهم من بعدهم وثبتوا ذلك، وكم من الآراء والأفكار كان انتقالها إلى ثقافتنا من ثقافات اخرى وأكبر شاهد على ذلك الثقافة اليهودية التي تسربت لفكرنا الديني عبر ما يسمى بـ”الإسرائليات”.
كانت هذه أسئلتي وإجاباتي حول موضوع خطبة الجمعة طرحتها عليكم ورتبت إجاباتها بحسب قوتها لتعيشوا معي ذلك الجو من البحث عن الحقيقة في قضية مهمة في حياتنا، سواء حياة المؤمن أو غير المؤمن.
كان هذا نقاشي لتلك المسألة من زاوية تأصيلية لا نقاشا عن مشكلات الخطاب، وإن كانت مشكلات الخطاب هي من دفعتني للبحث عن تأصيل خطبة الجمعة ذاتها. فربما وجدت حلا لمشكلات الخطاب الذي يحمل تعصبا مذهبيا وضيقا في تحديد دائرة المسلم، وتوسيعا لدائرة التكفير لتصل لكل مخالف، ومشكلات كثيرة تعرفونها من ترسيخ حالة العداء لا التعايش، والتباعد لا التقارب، في مخالفة لأهم مقاصد الرسالة التي رسخها منبر النبي عليه السلام “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.