من المؤكد أننا لا نستطيع الزعم بإمكانية استشراف إشكاليات الفكر في المستقبل الإسلامي، ذلك أن هذا الفكر يمر اليوم بفترة متأججة من القلق وبخاصة في تناول القضايا التي تعرض له.
من المؤكد أننا لا نستطيع الزعم بإمكانية استشراف إشكاليات الفكر في المستقبل الإسلامي، ذلك أن هذا الفكر يمر اليوم بفترة متأججة من القلق وبخاصة في تناول القضايا التي تعرض له.
ولا أظن أن مرجع هذا القلق يعود إلى الفكر الإسلامي أو الإسلام نفسه، ولكنه يعود في تخيلي إلى قلق الذين يتناولون قضايا هذا الفكر، ولهذا القلق الذي يعتريهم أسباب كثيرة:
– أولها أن تناول قضايا الدين في حديث حر مستطرد مرسل ليس أمرا سهلا، وإن كان متاحا على كل حال، بل ومحببا في كثير من الأحيان.
– ثانيها أن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تتناول الحديث عن أمور الدين إلا إذا أصابت من عمق التجربة والمعرفة بالفكر الديني قدرا ليس باليسير، ذلك أن هذا الفكر متعدد الوجود، ومع أنه بسيط العبارات في أغلب الأمر، إلا أن العبارات الإلهية فيه ـ على سبيل المثال ـ تكون عادة محملة بطاقات لا تنتهي من الدلالات على مستويات مختلفة.
– والأمر الثالث أن الذين يتناولون أمور الدين والفكر الديني، كثيرا ما يجدون أنفسهم يقفون في حيرة شديدة وهم يجدون سيلا من النصوص المتراكمة التي أبدعتها أو خطتها العقول السابقة، وتتمتع هذه النصوص في العادة بقدر كبير من الإغراء بالنقل عنها، أو بعدم تجاوزها على أقل تقدير، وإذا بهؤلاء الذين يتعرضون للفكر الديني أكثر الناس جدارة بترديد قول مَنْ قال: ما ترك الأول للآخر شيئا.
وعلى الرغم من هذا فإن القضايا المعاصرة تظل بمثابة الباب المفتوح على مصراعيه للولوج إلى مناقشة الجديد الطارئ بعقلية تحتفظ في الوقت ذاته بالفرصة المتاحة في التعبير عن الذات. كأني أريد أن أقول إن مناقشة قضية مستحدثة يعطي الفرصة للاجتهاد الذاتي بعيدا عن إطار السابقين، فكأن الفرصة للتعبير في حرية وبحرية قد أتت مع الطارئ حين طرأ على غير توقع.
ومع هذا تظل هذه الفرصة محفوفة بالمخاطر والمخاوف حين يسارع “النصوصيون” لإلباسها بسرعة الثوب الذي يجعلها قابلة للتعامل بحسبانها قضية قديمة.. بعبارة أخرى أن يقربوها إلى أقرب قضية قديمة تخضع لنص جاهز، وفهم مسبق.. ولابد لهؤلاء النصوصيين أن يفعلوا هذا بكل جديد مهما كلفهم هذا من عنت أو أصابهم بالتعسف.
ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذه هي طبيعة الحياة في كثير من مناحيها ومناشطها لا في القضايا الدينية فقط، ولكن في كثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ولكن الفارق الجوهري يبقي في أن درجة الاستقطاب تبقي عالية إلى حد مذهل إذا كان الأمر متعلقا بالكتابات الدينية ومن باب أولى بالفكر الديني.
ومما يزيد من طبيعة الاستقطاب في الكتابات الدينية ومن باب أولى بالفكر الديني أن الحكم عليها يكاد يصدر في الغالب من قبل قراءتها، بل ومن قبل تناولها.
– فهناك الحكم على المؤلف بشخصه.. وهو نادرا ما يتغير عند القارئ أو المتلقي ليكون شيئا آخر غير ما قد يسمي بالانطباع الأول.
– وهناك عنوان الدراسة الذي يشي بتوجه صاحبها وبموقفه.
– وهناك الانطباع والإيحاء والإيماء والظلال التي تتولد من العنوان إذا لم يكن العنوان في حد ذاته حاد الدلالة بصورة أو بأخرى.. وتلعب هذه الإيماءات الإيحاءات والانطباعات والظلال دورا حاسما في تكوين الحكم على المادة المكتوبة حتى من قبل قراءتها.
– كذلك فإن تقليب الصفحات كفيل بأن يجعل كثيرا من القراء يكوّنون فكرة سريعة وعامة عما في أيديهم.. ويكفي ـ على سبيل المثال ـ أن كثيرا من القراء يحكمون على المؤلف بمن استشهد بهم في متن المؤلف أو في هامشه.
– وكل هذه مجرد أمثلة سريعة لممارسات كثيرة لا نستطيع أن نلقي بمسئوليتها على القارئ وحده، حتى إن كان المؤلف يتحمل وحده تبعاتها.
ومع هذا كله يظل تناول الفكر الديني من الموضوعات المحببة إلى نفوس الكتاب لأسباب كثيرة:
– منها ـ على سبيل المثال ـ أنه شئنا أم أبينا موضوع محبب إلى القراء.
– ومنها أيضا أن الإنسان يعبر في تناوله للفكر الديني عن أسمي ما فيه من مشاعر، وهي المشاعر المرتبطة بعلاقته بخالقه أو بربه.
– ومنها أيضا أن مادة الحديث ثرية إلى أبعد حدود الثراء، ومثمرة أيضا.
– هذا فضلا عن أن الفكر الديني نفسه كفيل ببلورة موقف الكاتب تجاه كثير من القضايا الاجتماعية المطروحة، بل وغير المطروحة.
وحين يكون الإسلام شريعة أو عقيدة أو دولة أو توجها هو موضوع الفكر الديني فإن الأمور تخرج إلى دوائر أكثر اتساعا وجاذبية:
– فالإسلام نفسه -حتى عند الذين لا يعترفون بمكانته الدينية- دين متميز بتناوله كافة مناحي النشاط الإنساني: الاجتماعية والسياسية والعلمية والتربوية والحضارية.
– والإسلام نفسه أصبح محل دراسة واسعة في جميع أنحاء الكرة الأرضية.
– ولا تتوقف دراسات الإسلام عند خط ما أو حد معين، وإنما تمضي يوما بعد يوم إلى أقصي مما يمكن تصور أنها تمضي إليه.
– ومع أن توجهات الدارسين تتحكم وتؤثر في طبيعة هذه الدراسة، إلا أن تنوع التوجهات نفسه كان كفيلا بالتأثير في الدراسة نفسها.
– هكذا فإن الدراسات المتوالية عرضت كثيرا من وجهات النظر، حتى وإن لم تصل بعد إلى الحقيقة.
ومن الواضح حتى الآن وبحكم الممارسة والتجربة أن دراسات الإسلام في المجتمعات العلمية الغربية لا تتراجع، ولا يتوقع لها أن تتراجع. بل إنها تجاوزت مرحلة الاهتمام المرحلي المكثف إلى مرحلة أصبحت فيها هذه الدراسات من الدراسات الروتينية وذات الطابع الدائم.
على سبيل المثال فإنه وبعبارة جامعية أكاديمية ، أصبحت لها كراسي متفرغة وأقساما متخصصة.
ومن المؤكد أيضا أن هذا الاهتمام لن يتوقف حتى لو أصبح الغرب شبه واثق من انتصاره الحتمي على هذه الصحوة الإسلامية المعاصرة.
أما في العالم الإسلامي نفسه فإن تقليب صفحات الفكر الإسلامي تعرض لكثير من التباين في التناول:
– فقد ظلت مؤسسات العلم التقليدية تؤدي وظيفتها “فائقة الروتينية” في تجديد تقديم العلم، وفي تقييم التيارات الوافدة والآراء المستحدثة.
– لكن دور هذه المؤسسات ـوفي مقدمتها الأزهر الشريف ـ لم يكن بحكم طبائع الأمور هو المسيطر على زمام الأمور.
– أما الأصوات المرتبطة بالحركات الإسلامية المختلفة فقد ظلت هي الأخرى تعمق من رؤيتها للأحداث وللمستجدات، وتعرض تصوراتها تجاه المقدمات والنتائج.
– وبلورت الحركات الإسلامية المختلفة من كل هذه المعطيات فكرا إن لم يكن متكاملا فهو ـ على أقل تقدير ـ قد غطى مناطق كثيرة ومتعددة ومتباينة.
بيد أن كل هذه الجهود الفكرية لم يقدر لها أن تكتسب المرجعية الملائمة، ويعود ذلك لسوء الحظ إلى عاملين مهمين لا يستطيع أحد أن ينكر دورهما:
الأول: هو طبيعة الاجتهاد في تكوين هذه الأفكار الجديدة من ناحية.
والثاني: هو الحذر السياسي التقليدي الذي أصاب جماعات الإسلام السياسي بما جعلها لا تندفع أبدا إلى موقف الالتزام بمثل هذه الاجتهادات مهما كانت ثقتها في ولاء وانتماء أصحابها.
وربما كان هذا مما يحسب لهذه الجماعات من وجهة نظر النجاح في التكتيك والعمل السياسي، ولكنها على أية حال مثلت خسارة مؤكدة للجانب الفكري.
وعلى صعيد ثالث مواز للمؤسسات التقليدية والجديدة فقد برزت إلى السطح أسماء كثير من المجتهدين الهواة أو عشاق الشهرة والضجيج الذين أدلوا بدلوهم في الموضوعات المتصلة بالفكر الإسلامي، ومن المهم أن نتأمل أن معظم هؤلاء يبدؤون من نقطة متوسطة التحيز والانحياز كما هي العادة في مثل هذا النوع من الاجتهاد، ولكنهم لأسباب كثيرة لا تخفي على القارئ سرعان ما يتحولون إلى الاتجاه المهاجم، ثم المعادي، ثم المعادي الأبدي أو الحتمي لما يمكن أن يسمي بالحركة الإسلامية.
ومن اليسير أن نزعم أن الخطأ في هذا التحول يعود إلى جماعات الإسلام التي لا تبذل جهدا مناسبا في استقطاب هؤلاء المتطلعين إلى دور فكري إلى صفوفها، ولكن المؤكد أن الأمر لم ولن يكون بهذه البساطة لأسباب لا تخفي على القارئ.
المصدر : الجزيرة