بمقارنة فاحصة بين حقبتين متناقضتين، نجد أنه: شتان بين دول حضارية حفظت لنفسها صفحات ناصعة في كتب التاريخ، وبين إمامة عصبـوية لا تؤمـن إلا بالعنف والاستحـواذ. بـِمعزل عن قراءة التاريخ، هناك من يصف انقلاب جماعة الحوثي، واستيلائها على السلطة «21سبتمبر2015»، بـ «الحق الإلهي» الذي عاد لأهله؛ بعد «52» عاماً إلا «4» أيام؛ وهو التبرير الذي أنطلى على كثيرين؛ لوجود ما يُعززه من داخل موروث «الثورة السبتمبرية» ذاتها، وأدبيات مناضليها، ومفكريها، وصحفييها، ودائماً ما تتكرر عبارة: «الثورة التي أنقذت اليمن من ظلم الكهنوت، الذي جثم على أراضيها لأكثر من الف عام».
المُتلقي هنا، ينظر إلى اليمن بجغرافيتها الحالية، غير مـُدرك أن اليمن تاريخياً حكمته عديد دول مُتصارعة، وأن «الإمامة الزيدية» ما هي إلا جزء من كُـل، عاشت تاريخها الطويل في انحسار دائم، ولم تتجـاوز الهضبة الشمالية إلا بمراحل متأخرة في عهد «الأئمـة القاسميين».
حقائق مهمة ولافتة يتجاهلها كثيرون، والدافع لاستجلابها هنا، ظهور أصوت نشاز، لا تُجيد قراءة التاريخ، وتجيره حسب هواها، واستنتاجاتها لا تتوقف عند عودة الحق لأهله، بل تتعداها إلى الاستدلال بذلك الموروث المتراكم، وبالذاكرة الشعبية، فهي حد وصفها، تحفظ ذلك وتستسيغه، دون الرجوع إلى كُتب التاريخ ومراجعه الموثوقة، وتزيد على ذلك: بأن أباءنا وأجدادنا رضخوا لحكم الأئمة المسنودون من السماء، وصبروا على أذاهم، ولا ضير أن نعيش في كنفهم؛ إلى أن يقم الله الساعة؛ وهي مغالطة سمجة من السهولة تفنيدها.
إقليم حضرمـوت حكمه الأئمة الزيود لـ «24» سنة فقط، من «1681»، إلى «1705»، دخلوها في عهد الإمام «المتوكل» اسماعيل، بعد أن أستنجد به «الكثيريين» ضد أبناء عمومة لهم، وخرجوا منها بعد أن أستنجد «الأخيرين» بقبائـل «يافع»؛ التي بدورها دعمتهم بـ «6,000» مقاتل، ثم أقصتهم وحكمت ساحل حضرموت حتى العام «1882»، تحت مسمى الدولة «البريكية».
إقليم عـدن لـ «81» سنة، من «1647»، إلى «1728»، دخلها الأئـمـة في عهـد «المتوكل» إسماعيل، وضعفت سيطرتهم عليها بعد الثورة التي قادها سلطان «يافع» صالح هرهرة «1709»، الأمر الذي حفز سلطان «لحج» ليؤسس إمارة مستقلة ومستقرة في العام «1728»، وقد سبق ذلك توغل زيدي متقطع، فقد اجتاحها الإمام «الناصر» صلاح الدين بن علي، في القرن الثامن الهجري، ومُني بهزيمة خاطفة وقاسية، وفي القرن العاشر الهجري دخلها الإمام «الناصر» المطهر بن يحيى شرف الدين، لتطرد قواته بعد عام واحد من قبل الأتراك، الذين عززوا تواجدهم في اليمن، عبر بوابة عدن.
إقليم تهامة لـ «200» سنة تقريباً، وبدأت بالتحديد بعد خروج الأتراك من اليمن «1636»، في «حملتهم الأولى»، وانتهت باجتياح الشريف حمود بن محمد الحسنى، «صاحب أبي عريش»، واستقطاعها من «الدولة القاسمية» بمساعدة من «آل سعود»، في عهد الإمام «المنصور» علي بن «المهدي» عباس، واعتراف ولده «المتوكل» أحمد له بذلك عام «1809».
أتت بعد ذلك قوات محمد علي باشا، ثم الأتراك بـ «حملتهم الثانية»، ثم الأدارسة بدعم بريطاني، ولم تعود كاملة لدولة الأئمة إلا بعد القضاء على ثورة الزرانيق «1929»، وهي سيطرة هـدَّ سكونها اجتياح القوات السعودية للإقليم «1934»، بمساعدة هادي الهيج وبعض مشايخ تهامة، نكاية بالإمام الذي صادر أسلحتهم، أوقفت «اتفاقية الطائف» في نفس العام تلك الحرب، إلا أنها لم تُنهي الصراع.
إقليم الجند «تعز» و«إب» لـ «233» سنة تقريباً، وعلى مراحل متفرقة، «10» سنوات في عهد الأئمة من بيت «شرف الدين»، تسع منها قبل دخول الأتراك الإقليم «1545»، وسنة قبـل قـُدوم حملة سنان باشا «1569»، أما الأئمة «القاسميون» فقد حكموا الإقليم على ثلاث مراحل: الأولى من «1630 »، إلى «1709» انتهت بسيطرة متقطعة لقوات سلطان يافع صالح هرهرة، لخصها الشاعر «البكري» بقوله:
تعز خذْناها وأخذنا قعطبةْ
وإب والراحةْ ونجد الجاحْ
ويوم أخذناها وأخذنا مابها
وانتم بها أمسى السمر فيها متاح
ظل الإقليم بعد ذلك لسنوات قليلة محكوماً بالفوضى والفراغ، بسبب صراع الأئمة أنفسهم.
المرحلة الثانية من «1738»، إلى «1838»، ابتدأت بمعاودة الأئمة «القاسميون» السيطرة التامة على الإقليم، بعد سيطرتهم الشكلية خلال الـ «29» عاماً الفائتة، وانتهت بقدوم قوات محمد علي باشا، ثم الأتراك، أما المرحلة الثالثة فقد ابتدأت باجتياح قوات الإمام يحيى «1919»، وانتهت بقيام الثـورة السبتمبرية الخالدة «1962».
وفيما يخص إقليم سبأ، سنضطر هنا أن نفصل بين محافظة وأخرى، دون تحديد مدة زمنية جامعة، وإذا كانت أغلب مناطق محافظة الجوف مثلاً، قد دانت لحكم الأئمة الزيود، فإن محافظة مأرب عكسها تماماً، فهي تقريباً ظلت شبه مستقلة تحت حكم أشرافها، من العام «1640»، ولم يتحقق للأئمة السيطرة عليها إلا في عهد الإمام يحيى، بعد أن قضت قواته على آخر أشرافها محمد بن عبدالرحمن «1931»، وقد قامت قبائل صرواح في العام «1957» بتمرد مسلح ضد حكم الأئمة، إلا أنه فشل، فيما ظلت سيطرة النظام الجمهوري عليها متقطعة، ولم تتحقق السيطرة الجمهورية عليها إلا نهاية العام «1968».
محافظة البيضاء هي الأخرى، دانت بعض مناطقها لحكم الأئمة ولفترات متقطعة، دخلتها القوات الإمام يحيى «1921»، وبعد «20» عاماً، قـَدِمَّ إليها الشريف الدباغ من الحجاز، مستغلاً توالي الهزائم على الأئمة من قبل الإنجليز، قام بمساعدة قبائل يافع بثورة سيطر بها على عديد مناطق، أرسل الإمام يحيى قوة جبارة للقضاء عليه «1941»، وحين فشلت استنجد بالإنجليز؛ أُخمدت الثورة، وعادت البيضاء لحكم الأئمة حتى العام «1962».
يقول أحد شعراء البيضاء:
يا قلعة البيضاءَ وَاْحَيْد السنا
باتخِّبرِشْ كم جا من القبلة زيود
سبعة وسبعين ألف ذي عّديت أنا
من عسكر الشامي توطي بالحيود
إقليم آزال، وجد فيه الشيعة «الإسماعلية» و«الزيدية» مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم، وإقامة دولتهم، وقد استمر التنافس بين الفريقين منذ نهاية القرن الثالث حتى منتصف القرن السادس الهجري، قضى «الأيوبيون» على «الإسماعليين»، فيما ظلت الإمامة الزيدية محصورة في المناطق الشمالية، ولم تتحقق لها السيطرة التامة والشاملة على الإقليم إلا نهاية القرن الثامن الهجري، عندما بدأت «الدولة الرسولية» تترنح، وهي سيطرة متقطعة بفعل الاحتلال العثماني لليمن، بمرحلتيه المُنفصلتين.
ومن هنا يأتي التأكيد، أن الإمامة الزيدية حكمت «صعدة» وما جاورها، خلال تلك المدة الزمنية الطويلة والمتداولة، والتي تتجاوز الـ «1150» سنة، إذا ما استثنينا سنوات معدودة من حكم «الأيوبيين»، و«الرسوليين»، و«العثمانيين»، وتعميم تلك المدة على اليمن ككل، مغالطة تاريخية، والأسوأ أن تمر على مسامعنا مرور الكرام.
مـآثـر «الصليحيون» و«الأيوبيون» و«الرسوليون» و«الطاهريون» و«العثمانيون»، من مساجد ومدارس وحصون، مـا زالت شاهداً حياً على أنهم كانوا هنـا، ومروا من هنـا، تُفصح بنبرة تباهٍ عن عظيم اهتمام بالأرض والإنسان، وما ذلك الكم الهائل من الموروث، الذي صاغه من عاشوا في كنفهم، من علماء وأدباء، إلا دليل واضح على ان اليمن عاش عصره الذهبي في ظل تلك الدول المُتعاقبة، وبلغ مجده في عهد «الدولة الرسولية»، التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمـن.
وبمقارنة فاحصة بين حقبتين متناقضتين، نجد أنه: شتان بين دول حضارية حفظت لنفسها صفحات ناصعة في كتب التاريخ، وبين إمامة عصبـوية لا تؤمـن إلا بالعنف والاستحـواذ، شعـارها كان وما زال: «فـوق جيـش، وتحت عيـش».