لطالما تساءلت منذ سنوات عن تأصيل خطبة الجمعة، من أين استند الخطباء على تكرار الخطبة كل أسبوع في كل مسجد؟ وهل يكفي فعل النبي ذاته للخطبة أم أن هناك تفصيل في ذلك؟ فأفعال النبي ليست كلها تشريعا، وما كان تشريعا ليس على درجة واحدة.
لطالما تساءلت منذ سنوات عن تأصيل خطبة الجمعة، من أين استند الخطباء على تكرار الخطبة كل أسبوع في كل مسجد؟ وهل يكفي فعل النبي ذاته للخطبة أم أن هناك تفصيل في ذلك؟ فأفعال النبي ليست كلها تشريعا، وما كان تشريعا ليس على درجة واحدة.
بدأت تلك التساؤلات في هذه القضية وفي غيرها بعد اتضاح فكرة مقامات النبي عندي، ومن ثم توزيع أقواله وأفعاله وتصرفاته ضمن تلك المقامات ليأخذ كل قول وفعل قيمته التشريعية من ذلك المقام.
وكان من ضمن ما طرحته على نفسي من أسئلة هو إلى أين موقع خطبة الجمعة من مقامات النبي؟
أهي من مقام الرسول المبلغ للوحي؟ باعتبار صلاة الجمعة واجب فيها الاجتماع (أي الصلاة جماعة) بعكس بقية الصلوات التي يمكن فيها أن تكون مفردة، فكان يربط بين ذلك الاجتماع الأسبوعي للصلاة وبين بلاغه العام بالوحي لكل المؤمنين فيسبق تلك الصلاة أو يتبعها خطبته التي يتلو فيها بعضا من القرآن سواء القرآن الذي نزل عليه طوال الأسبوع ولم يصل لجميعهم بحكم تفرقهم في أعمالهم، أو القرآن الذي نزل بمكة ولم يصل لجميعهم أيضا؟
أم أن خطبة الجمعة كانت ضمن مقام ولي الأمر فتكون عبارة عن توجيه أسبوعي لما يهم جماعة المؤمنين من أمورهم السياسية يلقيه النبي عليهم حين يجتمعون للصلاة؟
أم أنه من مقام الإنسان المؤمن الذي يعظ وينصح المؤمنين؟ ولكل اختيار تبعات من الإلزام وعدمه سواء الإلزام الدائم أو المؤقت. وهذا سيجرنا للمرور –ولو سريعا- لشرح فكرة مقامات النبي عليه السلام.
ليس القول بمقامات النبي بدعا من القول أو مسألة جديدة قال بها المعاصرون، وإنما هي مسألة قديمة ناقشها بعض الفقهاء قديما وحديثا، فهذا الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) في كتابه “الفروق” يميز بين صنفين من التصرفات النبوية، يضم الصنف الأول نوعين هما: تصرفاته عليه الصلاة والسلام بالتبليغ وتصرفاته بالفتيا، ويضم الصنف الثاني نوعين أيضا هما: تصرفاته بالقضاء وتصرفاته بالإمامة أو ما نسميه اليوم بالسلطة السياسية، ثم يميز بين الدلالة التشريعية للتصرفات الأربعة.
أما الفقيه التونسي المعاصر الشيخ الطاهر بن عاشور (ت 1973) فقد تحدث عن اثني عشر مقاماً للنبي هي: “التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدى، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد، ولكل مقام حال منها قرائن تحف بقول الرسول أو فعله، ولا بد من معرفتها من أجل التمييز بين المقامات”.
وهكذا نرى إقرارا لأصل فكرة المقامات عند الفقهاء السابقين والمعاصرين، وربما كما -يرى بعضهم- أن التركيز على المقامات سمة أو ميزة للمذاهب المالكي على غيره من المذاهب. ولكن مع ذلك الإقرار وجد الاختلاف عندهم في التفصيل، وهذا ما دفعني لإعادة قراءة فكرة المقامات لأرى صحتها وأيها أكثر رسوخا من حيث الاستقراء والدليل القرآني، فكان الاستقرار على ثلاثة مقامات هي: مقام الرسالة ومقام ولي الأمر ومقام البشر العادي، وهو ما تشير له الآيتان في قوله تعالى:” قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ” وقوله تعالى: “وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ” ففي مقام البشر العادي “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ” وفي مقام الرسالة ” يُوحَىٰ إِلَيَّ ” وفي مقام الرسالة أيضا ” وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ” وفي مقام ولي الأمر ” وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ”.
فهذه مقامات ثلاثة تدور كل أقوال النبي وأفعاله وتصرفاته حولها ولا تخرج منها، وما وسعه ابن عاشور من مقامات هي مجرد تفاصيل بداخلها.
تكمن أهمية دراسة وفهم مقامات النبي لتحديد أي أقواله وأفعاله كان تشريعا وأيها غير ذلك وأيضا من حيث أيها كان تشريعا دائما وأيها كان تشريعا مؤقتا ينتهي بموته عليه السلام، فبينما تكون تصرفات وأقوال النبي في مقامي الرسالة وولي الأمر تشريعا يكون تصرفه وقوله في مقامه البشري غير تشريع، ثم يفترق مقاميه التشريعين من حيث الديمومة فيكون إلزام تشريع مقام الرسالة دائما لكل زمان ومكان، أما تشريع مقام ولي الأمر فيكون إلزامه خاصا بزمن النبي عليه السلام، ثم تنتقل طاعته لكل ولي أمر اختاره الناس من بعده، وساس أمرهم بالشورى كما بينت الآيات.
بعد ذلك الاستعراض السريع لمقامات النبي دعونا نذهب إلى الإجابة على تساؤل خطبة الجمعة وإلى أي مقام تنتمي؟
للإجابة البسيطة على هذا السؤال سنذهب للبحث عن خطب النبي ذاتها لنرى ماهيتها، وعناوينها العريضة، ثم نضعها في المقام المناسب. هذا ما يقوله العقل والمنطق، لكن ما يقوله البحث -بعد ذلك- أن تلك الخطب لم تدونها كتب الحديث؟!
تلك الخطب التي ابتدأت منذ وصول النبي إلى المدينة وبناء المسجد حتى وفاته كان عددها ما يقارب خمسمائة خطبة، بمعدل خمسين خطبة سنويا، فأين هي خطب النبي؟ ولماذا لم تدون رغم أهميتها ورغم بلاغها الجماعي؟ هل يكون البلاغ الفردي من النبي لفلان من الناس أكثر أهمية حتى تدونه كتب الحديث ولا تدون البلاغ الجماعي الذي يبلغه للناس جميعا؟ وكيف لا تدون كتب الحديث ذلك وقد دونت حب النبي للدبا وتفاصيل قضاء الحاجة؟! فهل كان أكل الدبا أهم من ذلك؟ هل ضاعت خطب النبي للجمعة لعشر سنوات؟!
في مقال قادم إن شاء الله سأجيب عن ذلك مفصلا.