آراء ومواقف

الحل اليمني بين الانقلاب الجديد والضغط الدولي

جورج سمعان

قبل موافقة الحكومة اليمنية على تمديد مشاورات الكويت أسبوعاً، مارست الدول الـ18 الراعية العملية السياسية ضغوطاً لمنع الحكومة من الانسحاب.
قبل موافقة الحكومة اليمنية على تمديد مشاورات الكويت أسبوعاً، مارست الدول الـ18 الراعية العملية السياسية ضغوطاً لمنع الحكومة من الانسحاب. لكن هذه الدول ستجد نفسها أمام المأزق ذاته بعد أيام. لا يكفي أن يبدي المجتمع الدولي رغبة في وقف الحرب التي استنزفت البلاد ودفعتها إلى حافة الإفلاس والتفكك والانهيار الكامل، وأغرقت أهلها في مآس وويلات وحصارات. وشرعت أبوابها أمام تنامي حركات الإرهاب. بل على رعاة التسوية ممارسة الضغوط اللازمة ودفع الأطراف المعنيين إلى القبول بخريطة الطريق التي وضعها المبعوث الدولي إسماعيل ولد الشيخ أحمد عشية بدء الجولة الثانية من المشاورات، في السادس عشر من تموز (يوليو) الماضي. أي التمسك بتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 2216 ومبادرة دول مجلس التعاون ومخرجات الحوار الوطني.
ولا يحتاجون إلى كثير من الدرس والبحث. فالأمم المتحدة باتت تملك صورة واضحة وشاملة لكل عناصر الأزمة ومواقف الأطراف المتصارعين وأهدافهم، بعد جولتي مفاوضات في سويسرا وثلاثة أشهر في الكويت. أما ترك الأطراف اليمنيين البحث عن حل بمفردهم فطريق لن يودي إلى صنعاء، بل يولّد مزيداً من المتاعب والمفاجآت، على غرار ما انتهت إليه الجولة الثانية من الحوار في الكويت.

آخر المفاجآت إعلان الحركة الحوثية وحزب الرئيس علي عبدالله صالح اتفاقهما على قيام مجلس سياسي أعلى. أي أنهما وجّها رسالة واضحة إلى الدول الـ18 الراعية التسوية السياسية، وكذلك إلى وفد حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي: المجلس سيتولى إدارة شؤون الدولة سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وإدارياً واجتماعياً وفقاً للدستور اليمني. أي أنه يلغي عملياً «الإعلان الدستوري» (5 شباط – فبراير 2015) و «اللجان الثورية» التي أتاحت للحوثيين الإمساك بمؤسسات الدولة. ويسقط كل القرارات والإجراءات التي اتخذوها منذ سيطرتهم على صنعاء في أيلول (سبتمبر) 2014. أي العودة إلى العمل بالدستور السابق، علماً أن الدستور الجديد سيكون مبدئياً وفقاً لخريطة التسوية التي طرحها المبعوث الدولي من مهمات حكومة الوحدة الوطنية.

ليس صحيحاً أن الاتفاق على المجلس الجديد لن يؤثر في مشاورات الكويت، وفق ما أعلن الناطق الرسمي باسم «أنصار الله» محمد عبدالسلام. بل الصحيح أنه لا يتماشى مع التزامات طرفيه، الحوثيين وحزب الرئيس السابق، بدعم العملية السياسية بإشراف الأمم المتحدة. لكنه تلويح واضح من هذين الطرفين بأنهما يتجهان إلى إعادة انتاج سلطات ومؤسسات ومجالس عسكرية وإدارات وفقاً للدستور إذا لم تثمر مشاورات الكويت اتفاقاً سياسياً. أي إذا لم يأخذ المبعوث الدولي ووفد الحكومة الشرعية بموقفهما ووجهة نظرهما في العملية السياسية، سواء بقيت طاولة الحوار في الكويت أو انتقلت إلى مكان آخر. لا شك في أن الرئيس صالح يناور مجدداً في الوقت الضائع، عبر محاولته إعادة الاعتبار إلى مجلس النواب الذي لا يزال قائماً تمهيداً للتشكيك في شرعية حكومة أحمد بن دغر التي لم تنل ثقة المجلس. وكان أخفق في دفع الحوثيين إلى إحالة استقالة الرئيس هادي على المجلس يوم حاصروه وحكومته في العاصمة، لخوفهم من أن يتولى رئيس المجلس الرئاسة مكان الرئيس المستقيل.

الإعلان عن المجلس الجديد يعني عملياً أن الحركة الحوثية وحزب صالح باتا مبدئياً بمثابة وفد واحد بمواجهة وفد الحكومة الشرعية. وهو ما يمهد لطي صفحة من الشكوك بين الطرفين. ويعزز موقفهما في أي مشاورات لإيجاد حل سياسي. فالحوثيون يحتاجون إلى قوات الرئيس صالح لتعزيز مواقعهم الميدانية على الأرض، فيتمكنون تالياً من التمسك بمطلبهم الحصول على حصة وازنة تترجم قوتهم العسكرية على الأرض وانتشار هذا القوة، وليس حجمهم الديموغرافي أو المذهبي. علماً أن ما حققوا على الأرض من عمران إلى صنعاء ومعظم المدن لم يكن وليد قوتهم بمقدار ما كان نتيجة تسهيلات وفرتها لهم قوى سياسية كانت تتصارع لوراثة تركة الرئيس السابق. حتى الرئيس هادي لم ينج من انتقادات أخذت عليه منحهم في مؤتمر الحوار الوطني ممثلين أكثر من حجمهم السياسي والاجتماعي والمذهبي. كما أن خصومهم، وغالبية القيادات والأحزاب السياسية لم ينبروا، لحسابات ومصالح خاصة، من أجل وقف تمددهم خارج صعدة ومناطقهم التقليدية. وهو ما شجعهم على استكمال مشروعهم باجتياح صنعاء في أيلول 2014. ولم يجدوا أيضاً موقفاً يعارض طرحهم «اتفاق السلم والشراكة» الذي تولى الإشراف على تسويقه المبعوث الدولي السابق جمال بن عمر. مع ما في ذلك من تجاوز لمقررات مؤتمر الحوار الوطني ومبادرة دول مجلس التعاون الخليجي. وهو ما أدى إلى تداعيات خطيرة انتهت بخروج الشرعية من العاصمة وإعلان «التحالف العربي» عاصفة الحزم بناء لدعوة الرئيس وحكومته.

 

إضافة إلى كل هذه الأسباب، فشل الحوثيون في إدارة المناطق التي استولوا عليها، على رغم إعلانهم «الدستوري» ونشرهم «اللجان الثورية». وهم يحتاجون تالياً إلى خبرات مناصري الرئيس السابق المنتشرين من نيف وثلاثة عقود في الإدارات والمؤسسات. مثلما يحتاج هو أيضاً إليهم وإلى عمقهم الإقليمي، هو الذي يفتقر، على رغم تمتعه بدعم داخلي في مناطق الشمال اليمني، إلى حليف إقليمي أو دعم من خارج الحدود. ويخشى أن تأتي التسوية على حسابه. ولا يطمئن إلى بقاء ممثليه في جلسات الحوار أو أي مناقشات تابعين أو شركاء ضعفاء، كما حصل في لقاءات سويسرا الفاشلة. ومعروف أن الطرفين أبديا استعداداً لحكومة وحدة وطنية تتخذ قراراتها بالتوافق. وتقوم قبل أي خطوة أخرى. أي قبل أي ترتيبات أمنية نص عليها القرار الدولي الرقم 2216، ثم أعاد توكيدها المبعوث الدولي في خريطته للتسوية، من تسليم الأسلحة الثقيلة التي كانت للجيش وإخلاء الثكنات ومقار المؤسسات الرسمية والإدارات العامة وغيرها من إجراءات. كما أنهما يطالبان برحيل الرئيس المنتخب. وواضح أن القبول بهذا المنطق يعني إقراراً بشرعية الانقلاب وانتقاصاً من شرعية الرئيس والحكومة. ويعني أبعد من ذلك أن «عاصفة الحزم» التي شنها التحالف العربي لدعم الشرعية وما كلفت بشرياً ومادياً لم يكن لها أي معنى. وهذا عنصر من عناصر الاستعصاء الذي يحول دون إبرام التسوية.

لا تبدو الظروف الحالية مواتية لتسوية سياسية. وحتى إذا أفلح المبعوث الدولي في إحداث اختراق سيظل الوضع هشاً، وأي اتفاق موقتاً. أثبت اليمنيون أنهم عاجزون عن التوافق وكل طرف منهم يعتقد بقدرته على الحسم العسكري، تماماً كما هي الحال في ليبيا أو سورية. والواقع أن كلا الطرفين المتصارعين لم يحقق إنجازات عسكرية على الأرض تتيح له التلويح بالحسم لإرغام الخصم على القبول بتقديم تنازلات. فالقوات الشرعية تقاتل على جبهة الانقلابيين مرة وجبهة «القاعدة» وغيرها من قوى الإرهاب مرة أخرى. أما الحوثيون وشركاؤهم فلم يتمكنوا ولن يتمكنوا من تحقيق اختراقات كبيرة في ظل «عاصفة العزم» التي حمت قواعد الشرعية والمقاومة وساعدت على تحرير مناطق ومدن على رأسها عدن العاصمة الثانية للبلاد، وعلى عودة الشرعية إلى هذه المناطق والمدن. كما أن تنامي الفوضى وانتشار قوى الإرهاب في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية وارتفاع حدة الأزمة الإنسانية، تحول دون اندفاع التحالف نحو خوض حرب واسعة. هذا الاستعصاء العسكري هو ما يتيح للانقلابيين مساحة للمناورة وإضاعة الوقت. فضلاً عن أن القوى المتحالفة في هذا الطرف أو ذاك لا تجمع بينها أهداف واحدة، بالتالي ليس لديها مصلحة في إنجاز تسوية سياسية دائمة.

لذلك، على الدول الراعية الحل السياسي ألا تكتفي بدفع الأطراف المتصارعة إلى الجلوس على طاولة الحوار. بل عليها تقديم الدعم الكافي إلى المبعوث الدولي من أجل فرض تسوية أياً كان شكلها، محاصصة على غرار العراق أو مناطق فيديرالية، أو أقله فرض وقف للقتال لمعالجة الأزمات الإنسانية. وعليها في مقابل الضغوط على وفد الحكومة، الحؤول دون ترجمة الحوثيين والرئيس السابق «الانقلاب» الجديد أو التلويح ببناء سلطات جديدة. أو الرهان مجدداً على إعادة تحريك الجبهة الحدودية مع المملكة العربية السعودية. كأن الاتفاق على المجلس السياسي بين «أنصار الله» وحزب المؤتمر الشعبي يلغي أيضاً التفاهمات الأمنية والعسكرية السابقة، خصوصاً التفاهم على التهدئة الذي أبرمه الحوثيون مع السلطات السعودية قبل نحو أربعة أشهر. ولا بد تالياً من العودة إلى التصعيد من أجل تعزيز الموقف التفاوضي، أو أقله من أجل إبرام تفاهم جديد تكون فيه قوات صالح طرفاً… فيما اليمن يتقدم سعيداً نحو الصوملة على خطى أشقاء آخرين شمالاً وغرباً.

نقلا عن الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى