كتابات خاصة

أوهام اختزال اليمن مذهبيا

محمد صلاح

هناك محاولات حثيثة في إعادة صناعة التوازنات اليمنية على أساس المذهب، وهذه الرؤى والأطروحات ليس لها سند معرفي من التاريخ الاجتماعي لليمن، لكنها تأتي اليوم في سياق وظروف تمر بها المنطقة العربية، وفي حالة من تعميم الظواهر الطائفية الموجودة في لبنان، والقائمة في العراق خصوصا بعد الاحتلال الأمريكي لها على بقية دول المنطقة، ومنها اليمن.
هناك محاولات حثيثة في إعادة صناعة التوازنات اليمنية على أساس المذهب، وهذه الرؤى والأطروحات ليس لها سند معرفي من التاريخ الاجتماعي لليمن، لكنها تأتي اليوم في سياق وظروف تمر بها المنطقة العربية، وفي حالة من تعميم الظواهر الطائفية الموجودة في لبنان، والقائمة في العراق خصوصا بعد الاحتلال الأمريكي لها على بقية دول المنطقة، ومنها اليمن.
هناك جهل فاضح في معرفة المجتمع اليمني، وقراءة الظواهر التاريخية، ومن أمثلة ذلك أن الحديث عن القبائل اليمنية وفق الانتماء المذهبي هو المهيمن على ذهنية العديد من الكتاب، والمعلقين، والسياسيين عرباً وأجانب، وما هو قائم على أرض الواقع مختلف عن ذلك، فالزيدية والزيود داخل اليمن تدل على منطقة، أكثر من دلالتها على الانتماء المذهبي، فالانتساب للزيدية والشافعية على حد سواء في البلد يدل على منطقة أكثر من دلالته على مذهب، فحضور المكان أقوى من حضور المذهب في أوساط المجتمع، وبسبب قوة العامل الجغرافي في تشكيل بنية المجتمع، فإن اليمنيين اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم بهذا – المنطق الجغرافي الذي ترسخ عبر الحقب – زيودا في النطاق الجغرافي الزيدي، وشوافع في النطاق الجغرافي الشافعي”. كما يذكر المحقق اليمني محمد عبد الرحيم جازم.

وفي القرن الثامن عشر حصلت عملية نزوح، ونزول من قبائل بكيل نحو مناطق اليمن الأسفل، ومازالوا يذكرون بين الفينة والأخرى بأنهم نقائل، فلم يطلق عليهم زيود أو اسباغ كلمة زيدي للتعريف بهم على أساس المذهب، كهوية للدلالة على تلك الأسر التي جاءت من اليمن الأعلى التي تتبنى الزيدية مذهبا، وفي هذا ما يدل على هامشية الدور المذهبي، وعدم نفوذه أو تأثيره في البنية الاجتماعية.

فالمذهب متبدل ومتغير بينما المكان ثابت على مر الحقب، فما زالت المناطق اليمنية تحمل نفس الأسماء التي عرفتها قبل ثلاثة آلاف عام، دون أن يحصل تبدل أو تغير جوهري إلا في القليل النادر، أو بعض التغيرات الطفيفة التي تعود إلى تقديم حرف أو استبداله بآخر كما توضحه النقوش المكتشفة اليوم في انحاء البلد المختلفة، وهذه الاستمرارية تؤكد على أهمية المكان والانتماء إليه، وأنه الأساس الذي يقوم عليه الاجتماع البشري في اليمن، وكما يقول يوسف شلحود في إحدى دراساته الميدانية عن التنظيم الاجتماعي في المرتفعات العليا شمال صنعاء، في منطقة حاشد، أنه “بحكم تكيفهم مع الحياة الزراعية فإن العصبات اليمنية توجد وتثبت نفسها حول منابع المياه، ثم تحافظ على ما فيه الكفاية من الأرض فيما بينها البين لكي تعول أفراد عصبتها فالمنطقة تصبح هنا رمز الحياة الجماعية وتستبدل القرابة العصبية كعامل تماسك بالرغم من أن العملية قابلة أن تعكس مثلا عندما يهدد خطر خارجي إحدى القرى، فعندها تعود العشيرة إلى الظهور كشاهد لماض كاد أن ينسى تقريبا”.

وقد كانت ردة الفعل في المناطق الجنوبية والشرقية من اليمن، على سيطرة الإمامة التي كانت منطلقاتها مذهبية، في القرن السابع عشر هو ارتفاع وتيرة التمرد على قاعدة مناطقية وقبلية، قد يقول البعض بل بحجة الاختلاف المذهبي، ومع عدم اغفالنا لوجوده او لتأثيره، لكنه لو صح وكان الأصل أو الدافع الرئيسي بحجة أن سكان تلك المناطق ينتمون إلى المذهب الشافعي، فإنها كانت ستتحد جميعا تحت راية المذهب للتمرد على سلطة الإمامة القاسمية، لكن ذلك لم يحدث، وما جرى حينها أنها قاومت مركزية الحكم الإمامي كل منطقة بمفردها دون أن يوحدها المذهب، وفي تفككها إلى أكثر من 25سلطنة، ومشيخة على أسس قبلية، ما يشير إلى وجاهة هذا الطرح.

وفي أوائل القرن العشرين بعد خروج الأتراك ورغم الصراع الذي دار بينهم وبين اليمنيين، وكان الإمام يحيى ومن قبله والده المنصور ممن قادوا المواجهات ضد العثمانيين، غير أن الاتفاق الذي جرى بين الطرفين في صلح دعان 1911م، والذي بموجبه سعى الإمام للحصول على اعتراف الباب العالي به زعيما دينيا يمثل الزيدية، فإن اليمنيين لم يعترفوا به كزعيم وطني، الأمر الذي دفعه كما يقول الدكتور عبد الملك المقرمي لخوض حرب في كل منطقة وقرية من قرى اليمن لترسيخ سلطته، وقد استطاع السيطرة على مناطق اليمن الأعلى والأسفل، كما كان يعرف آنذاك لعدم وجود قوى يمنية منافسة في بقية المناطق، ولو كان زعيماً وطنياً لما اضطر لخوض تلك الحروب في بقية المناطق اليمنية، وكان يكفي بعد دخوله صنعاء تسليم بقية مناطق البلاد بقيادته والقبول بحكمه..

كما شكلت حروب الإمام يحيى في أعالي اليمن، ووسطه وطريقة نظامه “حاجزا نفسيا ضد دعاوى الامامة” في مناطق اليمن الجنوبي المحتل في العقد الثاني من القرن العشرين كما يرى الدكتور “أبو بكر السقاف”، وذلك بسبب استناد سلطته على المذهب، وهو الأمر الذي جعل الشعب اليمني يواصل انتفاضاته على الإمامة حتى تكللت بالنجاح في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي أزاحت النظام الإمامي الذي ظل يعبر عن فشله في حكم البلد، وتحقيق استقرارها ووحدتها.

فالإمامة لم تجد استجابة مجتمعية لجعل المذهب والطائفة هوية للمناطق التي تعتنق الزيدية، ومرد ذلك أن الحضور التاريخي والوعي بالذات اليمنية سابق للمذاهب والملل.. الخ، وحين كانت اليمن تنقسم إلى كيانات متفرقة فإن المذهب لم يكن هو المحدد لمواقع النفوذ.

فاليمنيون – كما يرى صاحب السطور- ارتبطوا بالمذاهب الدينية التي وردت إلى البلد ارتباطا وظيفياً، وليس مصيرياً، كما نجد سرعة استجابة اليمني لتغيير المذهب واستبداله بآخر، والتعامل مع تعاليمها كأفكار قابلة للتجديد، والتحوير، والتغيير، والتبديل، لا كأيديولوجيات جامدة وثابتة.

ومن هنا يصعب على اليمنيين القبول باختزالهم داخل الهويات المذهبية، والتعريف بهم من خلالها كما في لبنان، ومن الصعب أيضا أن يكون الممثل لهم اجتماعيا، بل وسياسيا شخصية دينية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى