وأخيرا استأجرت بيت!
إنه مسكن صغير يلائمني كـ”ليد” عاطل عن العمل، وأسأل الله أن يجعله عوضاً صالحاً لمسكني السابق الذي عاثت فيه الفئران وشكلت رعباً غير عادي لـ”نادية سلام”.. زوجتي! وأخيرا استأجرت بيت!
إنه مسكن صغير يلائمني كـ”ليد” عاطل عن العمل، وأسأل الله أن يجعله عوضاً صالحاً لمسكني السابق الذي عاثت فيه الفئران وشكلت رعباً غير عادي لـ”نادية سلام”.. زوجتي!
يتألف منزلي الجديد من غرفتين وحمام ومطبخ ضمن الدور الأرضي لعمارة الفندم عبد الله خوشم، لكنه المنزل الذي وضع نهاية مقبولة لمسيرة بحثي المضني عن بيت للإيجار في صنعاء.
وبالرغم من ذلك، لا زلت أواجه اسئلة المارة عما إذا كنت أعرف بيت للإيجار في حي السنينة حيث أعيش؟
“أنا نفسي أدور لي بيت”.. هكذا أجبتهم في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ولا أدري كيف أجيبهم اليوم؟
في جولة المفاوضات التي أجريتها مع المؤجر “خوشم” بشأن منزلي الجديد كان ثلاثة من المنافسين لي في مسيرة البحث عن سكن يتفاوضون معه بالشأن نفسه، الأمر الذي تضاءلت معه فرصتي في تحسين شروطي التفاوضية ورضخت مكرهاً لشروط الحاذق خوشم.. وهكذا استأجرت هذا المنزل!
لا مشكلة لدي، وبالنسبة لمنكوب مثلي يشكل نقل العفش من بيت الى آخر، المصدر الأكبر لغصته في هذه المرحلة..
ومع أنني نقلت البيت من عندنا إلى عندنا.. في نفس الحارة هذه المرة تبقى هناك تطورات خطيرة ومؤلمة لا تتعلق بالمسافات يا ليد!!.
وأنت تنقل عفشك، تكتشف حاجات كثيرة ماعاد لها أي لزمة كـ”الثلاجة، والغسالة، والتلفزيون أبو 24 بوصة “، وكلها أشياء تحتاج إلى كهرباء محترمة لتصبح ذات قيمة!
مكتبتي مع دولابها العتيق صارت زائدة عن الحاجة في ظل هكذا أوضاع! فكل من لا يحمل السلاح اندرجت أوضاعه ضمن الفئات الاشد ضعفاً، بالرغم من كتبه القيمة!
طاولة التلفاز هي الأخرى تهالكت وكان على نادية سلام، إهداءها حطباً للحجة “حمودة” إلى جانب دولاب المطبخ الذي “تناصل” كلياً في عملية النقل الأخيرة هذه..
ومع كل عملية نقل، يفقد الدولاب الخاص بغرفة النوم جزءاً من مسامير تركيبه مجدداً، وتلك مشكلة بحد ذاتها.
مع انطلاق عاصفة الحزم هاجر عدد كبير من سكان حي السنينة الفقير تحاشياً للقصف الذي استهدف بضراوة مناطق عسكرية ومخازن أسلحة في مناطق قريبة ومتداخلة مع أحياء سكنية أخرى راقية ضمن ما يعرف بصنعاء الجديدة، مثل عطان، وحدة ونقم.
كان على كثير من الأغنياء والميسورين من سكان الأحياء الراقية هذه أن يغادروا منازلهم الفخمة بمجرد أن سقطت صنعاء بيد الانقلابيين الحوثيين في 21سبتمبر 2014، ومنهم من غادر بعد ذلك!
يملك الميسورون عقارات في بلدان أخرى كالقاهرة وعمان وإسطنبول، ومنهم من استأجر شقة فخمة ومريحة في مثل هكذا بلدان!!
وأما نحن (سكان الأحياء الفقيرة) فقد كان على الحاذق منا أن “يدفس” عفشه في غرفة واحدة يستأجرها للأثاث فقط، لكي يولي هارباً صوب قريته في الريف البعيد عن أهداف طيران التحالف، ودائرة الحرب الداخلية.
والبعض ترك عفشه الكثير في نفس منزله الذي أستأجره منذ سنوات وتراكمت عليه الايجارات كما فعل أخي عبده!..
في الأيام الأخيرة تعاظم حلمي بامتلاك شقة راقية وفخمة في أساس إسطنبول وقد جاء هذا الحلم عوضاً عن حلمي السابق في امتلاك شقة مماثلة في القاهرة!
الشهر الماضي تبدل حلمي العقاري هذا، كان هذا يوم أن عثر على الطالبة اليمنية “منى مفتاح” مقتولة في شقتها التي احترقت مرتين في القاهرة.
لمحتني نادية فيما أنا أتابع باهتمام الريبورتاج الخاص بـ”أساس اسطنبول” وهو عقار جذاب يعلن عنه في عدة شاشات عربية، فكان عليها أن تنكزني بأصبعها قائلة: شوف لنا بيت بالسنينة أنت وتحليقاتك الوهمية من القاهرة إلى اسطنبول!!
من الحارة التي عاقلها “البركي” إلى الحارة التي يحكمها “عجلان” في السنينة، واجهت واحدة من أكبر التحديات التي اختبرت رجولتي أمام نادية!
في اللحظات الصعبة التي أعدت فيها تركيب الدولاب الخاص بغرفة نومي، سمعت ضجيجاً كبيراً في “الزغط ” الزقاق.. كان أحدهم يهلل ويبشرالآخر بصوت مرتفع: انقلاب في تركيا..
وإذا بصوت ناعم نسبياً يأتني مدوياً من غرفة الجلوس: انقلاب في تركيا.. ضاعت شقتك يا ليد!
كان عليّ أن أتماسك كما تماسك أردوغان، وأواصل تركيب الدولاب، الأمر الذي اعتبرته نادية استثناءً في حالتي النفسية المعتادة حيال خطب كهذا!
أمليتها المنشور الهام الذي نشرته في صفحتي على فيسبوك، فيما أنا اتابع تركيب الدولاب الذي فقد نصف مساميره جراء النقل:
اكتبي يا نادية: انقلاب في تركيا وأظنه سيفشل، سيفشل لأن الأتراك عانوا من حكم العسكر.. سيفشل لأنهم ذاقوا طعم الديمقراطية.. سيفشل لأن أردوغان ابن الشعب الذي سيثور ولن يستطيع أحد إيقافه.. سيفشل الانقلاب يا ليد!!
تبين لنادية بأن كثيرين في نطاق الحلقة الضيقة لدائرة أصدقائي على فيسبوك يؤيدون الانقلاب ويشكرون الجيش التركي، تبين لها هذا في تعليقاتهم على منشوري التاريخي ذاك.
أمرتها بمتابعة المنشورات التي كتبها الزميلان هائل سلام ونبيل سبيع في نفس الشأن، ربما كان لشقتي “الحلم” في أساس اسطنبول تأثير على موقفي الرافض للانقلاب والمراهن على فشله.
لقد جاء ردها إيجابيا؛ ذلك أن نبيل وهائل مجسان نقيان لما يجري وما يجب أن يكون!
أحمد الله أن لا مشكلة طالت شقتي في اسطنبول، كما أحمده على مسكني الجديد الذي استأجرته وسط هذه الزحمة الهائلة لحينا الفقير..
تزدحم الأحياء الفقيرة للعاصمة صنعاء يوماً بعد يوم، وأظن هذا سيؤثر على سير المفاوضات الجارية في الكويت، وسينعكس على نتائجها لصالح من يحكم صنعاء اليوم؟
إذ كانت العاصمة المؤقتة عدن قد فشلت في لعب دور مماثل، بل كان دورها عكسياً بالنظر إلى أن الكثير من الضعفاء المنتمين إلى محافظات شمالية وخصوصاً تعز، قامت السلطات الموالية للشرعية بترحليهم من عدن عنوة دونما اكتراث بالمأزق الإنساني والأخلاقي الذي تحول إلى مأزق سياسي كالذي يواجهه الطرف الذي يحكم عدن اليوم على طاولة مفاوضات الكويت.
كثيراً ما توزن الأمور بمعيار ديموغرافي بعيداً عن تعريفك لنفسك بـ”الشرعي” أو تعريفك للآخر بـ”الإنقلابي”! وعلى طاولة المفاوضات تطرح أسئلة من قبيل: كم هو حجم الأرض التي سيطرت عليها في الصراع وكم تحكم من البشر فوق هذه الأرض التي لديك؟ مع مراعاة الطرف الذي تجري التحولات الديمغرافية لصالحه، شأن صنعاء اليوم..
حتى هذه اللحظة يواصل النازحون تدفقهم إلى صنعاء ونوعاً ما، إب ومأرب هرباً من جحيم الحرب التي ما انفكت قائمة على أشدها في تعز.
وخلافا لما كان متوقعاً بداية الأزمة، ظلت صنعاء بعيدة عن دائرة الحرب الداخلية التي تشهدها تعز ومأرب والبيضاء كما شهدتها عدن ولحج والضالع وأبين وشبوة، ومؤخرا حضرموت، الأمر الذي جعل صنعاء مكاناً ملائماً لعيش الفئات والأشخاص الأشد فقراً وضعفاً، والتي فرت من المناطق الملتهبة تلك..
محافظات أخرى كالحديدة ولحج وحضرموت وشبوة تفاقمت أوضاعها الإنسانية وصارت عرضة للتأثيرات السلبية لتغيرات المناخ كالحر الشديد وانتشار الأوبئة في ظل انقطاع تام أو شبه تام للكهرباء وضعف حاد للخدمات الصحية.
قدك بالسنينة وابردْ لك من اسطنبول يا ليد!!